هل نحن مقبلون على انتحار جماعي؟
19 أغسطس 2021
الشخصية بوجه عام هي صنيعة الثقافة الاجتماعية، وصورة مصغّرة لها في الغالب. فالفرد لا يكاد يفتح عينه للحياة حتى يجد الثقافة الاجتماعية قد ضربت نطاقها عليه وشملته بقيمها ومركباتها وطابعها العام. علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي.
قد يشير العنوان إلى المبالغة والإفراط في تهويل الأمور، لكنّ الواقع العراقي لا يكذب هذه الحقيقة. حيث تشير الأرقام إلى نسب مخيفة في أعداد المصابين، ومنهم نسب لا يستهان بها في أعداد الوفيات، فضلًا عن الزحام الشديد الذي تشهده المستشفيات العراقية. وتشير التقارير إلى أن التردد عن أخذ اللقاح، إن بقي بهذه الوتيرة البطيئة، فسيحتاج العراق لثمانية أعوام للوصول إلى المناعة المجتمعية. معنى هذا أننا مقبلون على كارثة صحية من العيار الثقيل. أضف إلى ذلك خصوصية الثقافة الدينية في المجتمع العراقي التي تكثر فيها مواليد ووفيات الأئمة. وتُتَرجَم هذه المناسبات على شكل طقوس جماعية مليونية وبالخصوص في شهري محرم وصفر، إذ يصادف فيهما مناسبة العاشر من محرم، وهو التاريخ الذي يصادف استشهاد الإمام الحسين ابن علي بن أبي طالب، ومن ثم ما يُطلق عليه في الأدبيات الشيعية بـ"أربعينية الإمام الحسين".
في العراق؛ لا المتدين يلتزم بمعاييره الشرعية التي يحث عليها الشرع بوجوب تجنب الأوبئة، ولا غيره ممن يتخذ من علمنة الحياة نقطة مرجعية له، يمكننا أن نأتمنه على حياتنا
فالتحدي الحقيقي الذي سنواجهه في مجابهة الوباء في هذا الشهر والذي يليه نظرًا لقوة هذه المناسبة الدينية المليونية. فمن الضروري الالتزام بالإرشادات الصحية، ذلك أن الشرائع الدينية لا تشجّع على تحدي الأوبئة بأي عنوان كان. ثم أن الأحاديث النبوية تؤكد على تجنب الوباء والابتعاد عن مسبباته وعدم الدخول في بلد موبوء، ووضع مسافة بين الشخص المصاب والشخص المعافى، كما أنه لا توجد فتوى شرعية، حسب علمي، تشجّع على تحدي الوباء. لا يوجد نص ديني يشجع المؤمنين على مكافحة الأوبئة والأمراض بالإيمان! أو الهتاف باسم الأئمة ونزع الكمامات، فهذه من بدع العوام وديانتهم الشعبية. لذا نتمنى أن يأخذ رجال الدين دورهم الريادي فيما يتعلق بالوعض والإرشاد وتوجيه أتباعهم. خصوصًا أن الفضائيات الدينية المتوفرة في العراق بلغت أعدادها حدًا ربما تحسدنا عليه باقي الفضائيات. على أي حال، يمكن لهذه الفضائيات الدينية أن تأخذ دورها لتوعية الناس وإرشادهم، على الأقل أن تعطي دورًا ملحوظًا للإرشادات الصحية بمثل الدور الذي تعطيه عادة لـ"اللطميات". لكن علينا أن نستدرك وللإنصاف: أن الديانة الشعبية ومغاليها يحتقرون صوت العقل والموضوعية مهما كان مصدره ومن أي جهة كان.
اقرأ/ي أيضًا: الوباء من منظور آخر
ومن ناحية أخرى، وبما أننا نتوخّى الإنصاف والموضوعية، يصعب علينا التفريق بين الجمهور الديني وغيره من حيث الالتزام بالإرشادات الصحية. الجمهور الأول تحركه بدع العوام ومخيالهم الشعبي المُعَزَّز بإيمانيات لا علاقة لها بالدين، وإن أفحمتهم بعشرات الأدلة الدينية حول عدم الصواب فيما يفعلون، فلا أظنّك ستخرج بنتيجة ملموسة. إذ كيف يمكنك الحفاظ على رباطة جأشك وسلامتك النفسية وأنت تقوم بمهمة شاقة لإقناع أحد الحمقى ممن يتخذون من عبد الحميد المهاجر مرجعًا علميًا. إنهم يأسسون إلى تقليد غير مسبوق؛ إنه "دين" يتحكم به بعض "الرودايد" و"المهوسجية" و"الروزخونية".
أما الجمهور الثاني، فتشهد له المصايف والمقاهي والمراكز التجارية باحتقاره لكل انظمة السلامة الصحية. وهو أيضًا، وعلى ما يبدو، متدرعًا بالأسس الرصينة للمنطق العلمي التي استلهمها من طبيب بيطري أبله يحذر الناس من خطورة اللقاح. وطبيبٍ آخر يتهكم على هذا الوباء الخطير. وقد استطاع هذان الطبيبان (البيطري وغيره) من سحب الكثير من الناس بأكاذيبهم "الطبية" وثبطوا الكثير من الهمم عن أخذ اللقاح.
كلا الجمهورَين ينطلقان من بدع شعبية وأوهام يتداولونها فيما بينهم، ويمضغونها يوميًا مثلما يمضغون العلكة، ولا فرق بينهما سوى بالدرجة. وإن كانت ثمة فائدة نستخلصها من هذا الجنون، أنه لا الدين ولا الدنيا يمكنهما انتشال الناس من هذه البلاهة الجماعية، إذ لا المتدين يلتزم بمعاييره الشرعية التي يحث عليها الشرع بوجوب تجنب الأوبئة، ولا غيره، ممن يتخذ من علمنة الحياة نقطة مرجعية له، يمكننا أن نأتمنه على حياتنا!
ولكي لا يظهر لنا منطيق محترف بفنون الجدل ويفحمنا بعدم جواز التعميم، نقول له هذا ليس تعميمًا بقدر ما هي نماذج يمكنك أن تحصل على عينات ليست قليلة من كلا الطرفين، وأعني بهم بالضبط هؤلاء البلهاء المٌصرّين بكفاح عز مثيله على أن الفيروس مؤامرة، أو مُصَنَّع مختبريًا، أو يسبب العقم، وغيره من الأساطير الشعبية. المشكلة ليست بكثرة البلهاء، فهم الأغلبية في كل زمان، وإنما تكمن المشكلة هنا وبالذات: إنهم يتحكمون بمصائرنا وبمستقبل أبنائنا، أنهم يدعوننا، رغمًا عنّا، إلى عملية انتحار كبرى، ربما لم نشهد لها مثيلًا في تاريخ العراق الحديث. هل ثم قدر أعمى يسوقنا دومًا للارتماء في أحضان البلهاء ليكتبوا لنا تاريخًا سياسيًا واجتماعيًا يضج بالدم والدموع؟
هناك عوائل صغيرة في العراق محكومة بديكتاتور عائلي صغير يمنعهم من اللقاح بسبب أوهام وخرافات
لا بأس أن أعيد هذه الكلمات التي كتبتها على صفحتي الشخصية، وهي كالتالي: حصلت لي قبل أكثر من سنتين نوبة صحية كنت على أثرها قريبًا من الموت، أو هكذا ظننت، ولم أفكر بشيء سوى بمن أحبهم، وماذا سيكون مصيرهم من بعدي. وكلما اتذكر الآن تلك العوائل المسكينة المحكومة بديكتاتور صغير يمنعهم من اللقاح تقفز لي مجددًا ذكرياتي السابقة.. فكروا بمن تحبون على الأقل، وقللوا من حجم الكارثة، فنحن مقبلون على كارثة حقيقية، أليس فيكم رجل رشيد!
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات