مهرجان بابل الدولي بوصفه آلية احتجاج
3 نوفمبر 2021
مرة أخرى يثبت هذا الجيل الجديد قدرته على تحدي الخطاب الاستبدادي. وهو بهذا يثبت لنا أن الاحتجاجات لا تتموضع في مكان بقدر ما هي ثقافة تتأصل بالتدريج، ولا تنتهي عند ساحة التحرير. ومن كان يعتقد بأفول نجم تشرين فلدينا فسحة من النقاش لنثبت له العكس، ونستثني من ذلك العيّنات السيئة من كلا الطرفين بكل تأكيد. وهو نقاش لا يتورط بالجدل الفارغ على أي حال وإنما يستمد أصوله من الوقائع السياسية والاجتماعية، ومن ينكر هذه الأخيرة، فلا يبقى له سوى أحلام اليقظة أو القراءة الرغبوية للواقع. الوقائع السياسية والاجتماعية قد استفضنا فيها بعدة مقالات، ولا حاجة إلى تكرارها. وبصرف النظر عمّا يُكتب- رغم أن ما نكتبه يستمد أصوله من الواقع- فالمراقب لسلوكيات الجيل الجديد ربما سينتهي بنفس النتيجة التي تحدثت عنها الكتابات الماضية، ومنها أن هذه الأجيال الناشئة مستمرة بالقطيعة مع جيل الأسلاف وليست معنية بكل هذه الهزائم والانكسارات التي خلفوها ورائهم ليرثها هذا الجيل الجديد.
لا يمكن لأي شرعية أن ترسخ وجودها ما لم تأخذ بالحسبان الفوز بقلوب الناس والإيمان بحرية التفكير والتعبير كقيمة مقدسة
هذه المرة ليست احتجاجات كلاسيكية تنحصر فعالياتها في مكان معين، بل هو حدث فريد من نوعه ينطوي على حمولة رمزية هائلة وأعني به مهرجان بابل الدولي، حيث ارتفعت بعض الأصوات النشاز لتطالب بحذف الفعاليات الغنائية بحجة المحافظة على قدسية التقاليد ومكانة المحافظة الدينية كما يزعم بعضهم، ذلك أن رمزيتها الدينية المزعومة تتنافر مع هذا الإقبال السافر على "التحلل" (الغناء). وعلى أثر هذه الأصوات، وكردة فعل احتجاجية، هب الشباب للمشاركة في هذا الحدث الذي طال انتظاره، ليثبتوا مرة أخرى أنه ما من قوة تمنعهم من اختيار لحظتهم المناسبة وصناعة تاريخهم بأنفسهم بمعزل عن أي وصاية تزعم انفرادها بالشرعية وتقرر الخطأ من الصواب.
اقرأ/ي أيضًا: لم يشهده العراق منذ 20 عامًا.. تعرف على فعاليات مهرجان بابل الدولي
يتوهم بعض المتعصبين أن الخطاب الشعبوي وإثارة حماس الناس البسطاء هو الرهان الوحيد لمجابهة أي تطلع جديد في المجتمع العراقي، فجاءهم الرد حاسمًا من قبل الشباب: ليس لكم الحق في تسيير شؤننا الحياتية، وعليه سنضاعف وجودنا في هذا المهرجان. لكن بعض القائمين على الخطاب الديني لا يدركون هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان. وبصراحة، أن فوات الأوان من عدمه لا يعني شيئًا لهؤلاء؛ إنهم بلا رؤية ولا يعرفون ماذا يريدون بالضبط.
أزعم أن هذه الحقيقة بديهية: إجبار الناس على الإيمان سيحيلهم إلى كائنات منافقة. وأزعم كذلك أن هذه البديهية تغيب عن بال الكثير ممّن نذروا أنفسهم لسيادة الخطاب الديني. والمشكلة أن كل وقائع التاريخ لا تفي بالغرض ولا تحرك الساكن في عقول هؤلاء. وإن كان ثمة شيء علمنا إياه التاريخ هو ما من قضية دينية استطاعت أن تغرس جذورها بوسائل الإكراه. بل سيعمد الناس بمرور الزمن إلى تطوير أخلاقيات مضادة تجري بالضد من الخطاب الديني.
وينطبق الأمر على حد سواء فيما إذا كان عملية الإكراه دينية أم دنيوية فستكون النتيجة واحدة: ثبات الناس على مبادئهم. وقد تناسوا مظلومي الأمس أن قمع المتدينين لم يزدهم إلا إيمانًا وصلابة. وهم اليوم يثأرون لمظلوميتهم ويطبقون ذات الآليات التي كانوا يتظلمون منها، وهذه مفارقة عجيبة تثبت لنا أن القوم لا يوجد في قاموسهم أخلاقيات العدل والانصاف ومبادئ الحرية والتعددية والاختلاف.
يمكننا أن نستنتج فرضية تزودنا بها الوقائع الاجتماعية والسياسية في العراق، أن الأجيال الجديدة على أهبة الاستعداد دومًا لمعاندة الخطاب الديني، وعلى سبيل الفرض، حتى لو استخدم الخطاب الديني آليات العنف الرمزي أو الفعلي فستكون النتائج معاكسة تمامًا، أي سيعمد الجيل الجديد على مخالفة هذا الخطاب، بل سيزداد عنادًا وممانعة لكي يدافع عن كينونته.
إنها أجيال شرسة ومعاندة لدرجة أنه حتى الموت لم يعد يخيفها. إنها أجيال تبحث عن احتمالات وممكنات جديدة للحياة، ولا سبيل إلا بالاعتراف بحق الاختلاف والتنوع، وبخلافه ستزداد حدة الممانعة وسيفشل كل خطاب إقصائي للحد من هذه التطلعات. هل سيفهم الخطاب المهيمن تلك الحقيقة: لا يمكن لأي شرعية أن ترسخ وجودها مالم تأخذ بالحسبان الفوز بقلوب الناس والإيمان بحرية التفكير والتعبير كقيمة مقدسة لا يمكن لأي قوة مهما كانت درجة نفوذها أن تحد منها؟ من المرجح أن تبقى هذه الحقيقة مثار جدل في المستقبل القريب على الأقل.
متى يدرك هؤلاء أن سياسات القسر والإكراه سترتد عليهم عاجلًا أم آجلا، وتاريخ البعث ليس بعيد؟!
اقرأ/ي أيضًا:
بداعي "القدسية".. أمر بإلغاء الفعاليات الغنائية في مهرجان بابل
لوحات مذهلة وجدارية نادرة.. بغداديات تسحر العالم في أكبر دور العرض
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات