لعبة الاستثناء
10 أبريل 2020
تميل الأنا إلى ستر عورتها من خلال التركيز على الآخرين. واللعبة المفضلة لديها، أو فلنقل الإستراتيجية المفضلة لديها هو الاستثناء. لا تنحصر هذه اللعبة عند الأفراد فحسب، بل لدى الجماعات على حد سواء، ونقطة الاختلاف هنا هو في الدرجة فقط. يظهر إن التعصب لدين أو أيديولوجية أو الشعور بالتفوق يتطلّب هذه اللعبة، فلولاها سيتساوى البشر في معاناتهم وهذا ما لا تريد الأنا الاعتراف به!
يغدو الاستثناء عند المنكسرين تعويضًا عن خيباتهم، بينما يعمد المنتصرون إلى حالة الاستثناء لأنه تحصيل حاصل
فلا بد، والحال هذه، أن تدخل الأنا في حلم جميل تعوض من خلاله انكساراتها وهزائمها. الخيبات ثقيلة على النفس، فلابد من آلية هروب تضمن التعويض والنسيان. وبدلًا من المكاشفة نلجأ إلى استثمار الخيبة من خلال لعبة الاستثناء؛ أن نركز أذهاننا عى الآخرين، أما نحن فنسقط أنفسنا في خانة الإعفاء.
اقرأ/ي أيضًا: الإنسان والإنسان الآخر
ومن الطريف إن لعبة الاستثناء لا تتوقف على المنكسرين بل المنتصرون لهم حظ من ذلك الاستثناء. يغدو الاستثناء عند المنكسرين تعويضًا عن خيباتهم، بينما يعمد المنتصرون إلى حالة الاستثناء لأنه تحصيل حاصل، ذلك أن نرجسيتهم الجماعية في حالة نشوة عوّضت كل حالات الاستلاب التي رمّمت انكساراتهم الماضية. المنتصر تسكنه النشوة ويضع نفسه في قمّة الهرم. إنه لم يعتمد على مجد زائف أو مخيال ثقافي يضخّم صورته، بل كان مستحقًا للاستثناء لأنه منتصر، وهذا الأخير هو من يضع القوانين ويدون التاريخ ولا عزاء للمنهزمين!
فكل التضخيم المبالغ فيه للذات الذي سيحصل فيما بعد نابع من هذه القوة التي تلهم صاحبها بكيفيات نفسانية تميل إلى الغطرسة والرغبة بالتميّز وتقسيم الناس إلى درجات متفاوتة، رغم وجود أسباب "واقعية" تعزز لديه هذا الشعور. وهذا ما حصل في أوروبا الاستعمارية التي امتلكت أسباب التقدم، فعمدت إلى تقسيم العالم إلى أول وثاني وثالث، ولم تكتف بذلك بل امتد التقسيم إلى الأعراق؛ فالعرق الأبيض هو العرق المتفوق والذي يمتلك القابلية على التفكير. وبهذه الطريقة خضعت الأعراق البشرية إلى تسلسل هرمي يكون فيه العرق الأبيض في قمة الهرم.
لكنّ العلم أقوى من كل استثناء، إذ وضع الإنسان تحت مشرحة التجريب فتبيّن أن الجينات ليست بهذا التميّز الذي تخيله المنتصر، وأنماط التفكير المختلفة بين الحضارات نابع من منطقها الخاص الذي تعززه الثقافة السائدة. والأطرف من ذلك، إن المنتصر الأوروبي هو من توصل لهذه النتائج فعززت لديه فضيلة التواضع بشكل عام، وأصبح الغرب الثقافي مركز أشعاع فكري تستلهم منه الحضارات مختلف حقول المعرفة. بل حتى الشعوب المقاومة للاستعمار قبلت بنموذج الدولة الحديثة، لأنها لا تمتلك البديل.
على أي حال، فنحن أمام حالتين من الاستثناء، وما يهمنا هنا هو الحالة التي تعزز الشعور الموهوم بأننا استثناء مقارنة بالآخرين حتى لو كنّا مهزومين.
منذ زمن طويل أتساءل: لماذا تستحسن الأيديولوجيات هذه اللعبة دون سواها؟ وبالطبع تبدو منطقتنا العربية هي الأكثر تأثرًا بهذه اللعبة، لأنها تحتفظ بسجلٍ هائل من الهزائم الكبرى؛ ابتداءً من فشل النهضة ومحاولة حرق المراحل والقفز إلى الثورة، ومرورًا بحروبنا الخاسرة، ونهاية بـنكسة حزيران التي أعطت مشروعية ضخمة لكل حالات الاستثناء التي نستمتع بها! وكانت الخاتمة المروّعة للردة والنكوص التي تهيمن على وعينا حتى هذه اللحظة.
نحن العرب لم نستفق من الرضّة النفسية، وجرحها النرجسي العميق الذي جاء من كيان صغير أحدث صدمة كبيرة في الأوساط العربية
ألم يتعرض الشعب التبتي إلى قمع شديد القسوة من قبل الصين الماوية، لكنه لم يقع فريسة لهذيان الاستثناء، بل واصل حياته الطبيعية، واستقر الكثير من التبتيين في البلدان المجاورة، وذهب الكثيرمنهم إلى الدول الغربية ليتحولوا هناك إلى مصدر أشعاع روحي دون أن ينسى قضيته المركزية، وهي استقلال التبت لكن من دون شعور زائف بالاستثناء.
اقرأ/ي أيضًا: صراع النماذج
لقد كف الصينيون أن ينظروا إلى من هم خارج سور الصين على أنهم برابرة، وأنهم الشعب المستثنى، وأنهم لا يحتاجون الآخر بقدر ما هو يحتاجهم، ولا يحق للغرباء أن يدخلوا إلى من باب السجود للإمبراطور. الملفت في هذا كله أن الصين تعرضت لإذلال شديد القسوة من قبل المستعمرين ولم ينفعها الاستثناء. لقد فهموا اللعبة جيدًا: لكي تمتلك أسباب القوة عليك تستلهم أدبيات المنتصر وتنزلها على أرض الواقع من دون شعارات زائفة، وهذا ما فعلته الصين بالضبط، وهي تنافس اليوم القوى الكبرى وتثبت للعالم أنها رقم صعب في المعادلة العالمية. لم يحدث ذلك لولا أنهم راجعوا أدبياتهم القديمة بكل قسوة، واتضح لديهم أن شعورهم العميق بالاستثناء ربما كان أحد أسباب هزائمهم!
قبلت اليابان أن تكون "طوقًا عازلًا" أمام التمدد الصيني لتحظى باهتمام المهيمن الغربي، فتحولت اليابان إلى دولة متقدمة تنعم بكل أسباب الرفاه. وبالطبع لم يكن المهيمن وحده من دب هذه الروح لدى الشعب الياباني، وإنما كان مشروع تحديث اليابان حاضرًا قبل المهيمن. والأهم من ذلك كله: إن اليابانيين يوم كانوا يعتقدون أنهم شعب استثناء جاءتهم الضربة القاصمة لتوقظهم من شعورهم القومي المبالغ فيه. وهم يعترفون بذلك بطيب خاطر ومن دون غطرسة قومية فارغة.
نحن العرب لم نستفق من الرضّة النفسية، بحسب جورج طرابيشي، وجرحها النرجسي العميق الذي جاء من كيان صغير أحدث صدمة كبيرة في الأوساط العربية (كما ذكرناها في مقال آخر). ولا زلنا لم نتعافَ من هذا الزلزال المدوي. وظل الفكر والسياسة العربية تستلهم من الحضارة الغربية بتخبط غريب. ليس لأن الحضارة الغربية متقدمة علينا بأشواط، وإنما من باب الندية وردة الفعل الصادمة حينما يستفيق المهزوم ليجد خصومه متفوقين عليه بكل شيء. ولذلك جاءت "الحداثة" العربية حولاء عرجاء، لم تستطع خلق الفضاء الفكري المناسب مع وضعنا المزري. فلا نستغرب من وجود "فلاسفة" عرب هيغليين أو ماركسيين، أو كانطيين (نسبة إلى الفيلسوف عمانؤيل كانط)، أو نيتشويين، أو هيدغريين، لكنهم لم يضيفوا مفهومًا جديد لهذه لمدارس الفلسفية الكبرى. بل، ربما، لم نصل حتى لمستوى الشرّاح لهذه الفلسفات!
ليس هذا فحسب، بل حتى على مستوى الأدب، فيوجد لدينا نقّاد بنيويون وتفكيكون، ساهموا في نشر الظلام الدامس للنصوص الأدبية بدلًا من أضاءتها، بحسب تعبير الناقد العربي عبد العزيز حمودة، وسنأتي عليه في مقال آخر. تعاملنا مع هذه الأفكار كما لو أنها سلع استهلاكية، ويبدو أن شعورنا بالاستثناء يعزز لدينا هذا الكسل والتراخي. ألم يقل حسن حنفي إننا لا نحتاج إلى فلسفة تاريخ لأننا نمتلك القرآن الكريم كما يشير جورج طرابيشي؟ ألم يزل ذلك السؤال راهنًا حتى هذه اللحظة وهو: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ كما لو أنه سؤال غامض وعسير الفهم. والحال أن من يعترف بالفوات الحضاري لا يجهد نفسه بهذه السؤال على الإطلاق. أعني أنه سيعترف بالحال أنه مهزوم وقد فاتته أسباب التقدم، لكن حتى هذا السؤال، على رغم من براءته، يحمل في لا وعي السائل هذه الفكرة الجوهرية: إننا استثناء، وبما إننا كذلك علينا أن نفتعل مناورة تحفظ للذات كرامتها ونتمسك بهذا السؤال. بينما يبدو السؤال التالي أكثر تواضعًا وهو: لماذا لم نستلهم التقدم الهائل الذي حصل في الغرب دون أن نعتبر أنفسنا استثناء من الهزيمة؟!
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات