ثقافة وفنون

قفص

14 مارس 2019
'_0.jpg
يبقى للطائر حلم وهو الحرية (فيسبوك)
عبد شاكر
عبد شاكر روائي وقاص من العراق

في بيت متهالك قديم من بيوت زقاق منسي لإحدى مدن العاصمة الجريحة وداخل غرفة نستها الفصول، استلقى الرجل الأعور على سريره ذي الفراش القديم باسترخاءٍ عجيب. كانت عينه المعطوبة مُسبلة الجفنين بسبب إصابة قوية كان قد تعرض لها على يد أحد الشقاوات وسط سوق شعبي لبيع الطيور في سنة من سنوات الحصار. أما عينه السليمة الأخرى فلقد كانت تدور في محجرها متبحرة بأدق التفاصيل التي شكلت عالم عزوبيته الخاص داخل ذلك البيت العتيق.

البرج الخشبي لطيوره الجميلة المتعددة الأنواع والأشكال، تلك الطيور التي حرص على تربيتها والإتجار بها أكثر من أيِّ شيء، وسريره الضّاج بذكريات مغامرات الحب الحرام مع جارته الخرساء صاحبة المؤخرة المميزة التي أطارت عقله لكنه حُرِمَ من وصلها بعد وفاتها بصعقة كهربائية قتلتها دون علم من أحد. والجدار المعلق عليه الكثير من صور العائلة الذين فقدهم تباعًا إثر حوادث وفيات مختلفة التفاصيل والتفاهة، والرفّ الذي زيّن به كتاب الله وقد وضع تحته قطعة خضراء مزركشة بخيوط ذهبية لامعة دون أن يجرؤ يومًا على قراءته.

وكتاب رأس المال الذي خبّأه عنده صديقه عبد الكريم الشيوعي صاحب الشعر المنفوش والنظارة الطبية المدورة العدسات قبل أن ينجح في الوصول إلى الشمال هربًا من بطش السلطة. كان سرّ احتفاظه بذلك الكتاب يتمثل بإعجابه الشديد بتفاصيل وجه كارل ماركس بشاربه الجميل وحاجبيه الكّثين ولحيته العظيمة وتسريحته الشائبة الرائعة التدرج الكاشفة لجبين عريض وأعين ثاقبة النظر وتقاطيع تدل على الجد والصرامة، كان يخاطبه في لحظات السُكر، قائلًا، إن "لكَ وجه ولحية ولي صالح أيها المُلحد الجميل". وأشرطة دينية كثيرة كان يحرص على الإستماع إليها متأثرًا بقصصها وحكمها دون أن ينفذ شيئًا مما تطلبه هذه المحاضرات من الإنسان بضرورة أن يكون مؤمنًا قريبًا من الله، وأشرطة أفلام إباحية كثيرة لم يجرؤ على مشاهدتها مُذ وفاة خليلته الخرساء، وقدرٌ كبير لحفظ أرغفة الخبز وكوز ماء رائع الصنع احتفظ بهما كأرثٍ غالٍ من موجودات والدته التي لم تكن أكثر من كيس أدوية ووثائق رسمية وصورة والده الشمسية الوحيدة أيام خدمته في سلك الشرطة ومجموعة من شذرات محابس وخواتم فضة ومكحلة قديمة بمرود رفيع ولبّان مُر وكيس صغير لهيل قديم وطوق لخرز صفراء كبيرة كانت تعطيها للنسوة عند إصابة الأولاد حديثي الولادة بمرض أبي صفار، وهوية مرتبها التقاعدي الذي ورثته من أبيه بعد وفاته، وملقط صغير ومجموعة من القطع الخضراء والقطع النقدية المعدنية التي كانت تتفاءل بها، وقاصة معدنية فيها الكثير من الأوراق والقطع النقدية التي حصل عليها أيام التسول قبل أن يتوجه للعمل في كشكٍ خاص لبيع الصحف والمجلات وعلب السجائر وقداحات الغاز الصغيرة وصور المشاهير وأقلام الجاف ومواد أخرى خاصة بقرطاسية تلامذة الصفوف الابتدائية الأولى وغيرها من الحاجات الرخيصة الثمن.

لم يجد الوقت ليعيد شريط حياته عندما أحسّ أكثر من أي وقت مضى بدنو أجله.  ثمة مسبحة في يده التي دبّ في أناملها خدر وبرودة الموت يكرّ بحباتها مستغفرًا الله طمعًا في رحمته، عاجزًا تمامًا عن النطق بالشهادتين، وأمامه زجاجة خمر يتوق لاحتسائها عسى أن يتجاوز رهبة لحظة اللقاء بملك الموت.

كان قد نشر قبل تلاشيه بيوم الكثير من حب الدخِن والبرطمان والحنطة لطيوره العزيزة على قلبه ولم يبقِ من إناءٍ فخاري صغير إلا وملأه ماءً لها، ولم يملك أكثر من رغبة فتح كل منافذ الخلاص من باب رئيسي إلى نوافذ صغيرة موزعة على كل جوانبه عسى أن تتحرر من قسوة ذلك القفص الكبير الذي حُبست في داخله طويلًا.

في لحظاته الأخيرة وقد توقفت يده عن تسبيحات الإستغفار وتلاشى ظمأه لاحتساء الخمرة  تجمدت عينه على طيوره الحبيسة عاجزًا عن إطلاق كلمة واحدة ربما كانت  "عاع"  أخيرة من أجل أن يمنحها حرية امتلاك السماء، مات وحيدًا منسيًا، وبقيت طيوره داخل قفصها القديم الكبير تنقر بحبات الدخن والبرطمان والحنطة وتشرب الماء من أواني الفخار المدورة بكل عنفوانها الجميل وهديلها الساحر و"بقبقة" تزاوجها دون أن تفكر بالتحرر من ذلك القفص متجاهلة أمر بابه المفتوح على سعته.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

غرفة في نُزل ليلي داخل الغرفة

‎بغداد في زمانين

الكلمات المفتاحية

مدرس.jpg

صور: أستاذ عراقي يتطوع لتعليم المسمارية بطريقة مبتكرة

ينظم مدرس مبادرة سنوية لتعليم الكتابة المسمارية عبر مشروع يستهدف طلاب المرحلة المتوسطة


الهيئة العامة للاثار والتراث.jpg

البعثة التنقيبية العراقية الإيطالية تقترح إقامة متحف ثابت في تل محمد

اكتشافات آثارية في تل محمد ببغداد


جروانة.jpg

لا سياج ولا إجراءات تأمين.. "تويوتا العراق" تبرر صعود "لكزس" فوق السد الأثري

بررت شركة "تويوتا العراق" تصوير إعلان تجاري على متن سد جروانة الأثري في محافظة نينوى والذي أثار استياءً كبيرًا وتفاعلاً غاضبًا


المخرج العراقي محمد شكري جميل.jpg

أخرج "المسألة الكبرى" وشارك في أفلام عالمية.. رحيل المخرج العراقي محمد شكري جميل

النقابة والوزارة تنعيان المخرج السينمائي العراقي محمد شكري جميل عن عمر 88 عامًا

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert