رأي

قصة الجنوب: أعوام من الخداع والتبرير

6 نوفمبر 2021
368cdc57-ec32-49b5-b010-00e0367d795e.jpg
تعتبر المؤامرة الخبز اليومي للخطاب السياسي الشيعي (فيسبوك)
رعد أطياف
رعد أطياف كاتب من العراق

"أعداد لا تحصى من القتلى

احتشدوا أمس في الثكنة

وعندما سألهم آمر الفوج

ماذا تريدون؟

أجابوا:

نريد أن نموت". 

عبد الأمير جرص

"يؤسفني أن أقول لكم لم يسمحوا لنا، لم يسمحوا أن نقدم الخدمة لهذه المحافظات، لأننا أتباع الحسين مثلما حرموا علي بن أبي طالب.. كذلك لم يسمحوا لنا أن نقدم الخدمات لأهلنا في هذه المحافظات سواء في ميسان أو ذي قار أو المثنى أو البصرة أو الناصرية لأننا من أتباع علي". هادي العامري في حملته الانتخابية الأخيرة.

من المضحك حقًا إصرار النخب السياسية الشيعية على تكرار ذات الحكايات الشعبية على جماهيرهم. والمشكل الأكبر في ذلك كله أن هذه الحكايات أضحت أحد الأسباب المباشرة في فشلهم  السياسي الذريع، ولم يعد الكثير منهم ممثلًا لهذا الجمهور الذي تم استغفاله قرابة العقد من الزمن، وهذا ما أفرزته لنا الانتخابات الأخيرة حيث لم تستطع تلك الحكايات المضحكة من التغطية على سياساتهم الفاشلة.

تعتبر المؤامرة الخبز اليومي للخطاب السياسي الشيعي ويندر العثور على خطاب عقلاني وموزون يجازف بنقد الذات

كل الشعارات المستهلكة من قبل الفصائل الشيعية لم تضع حدًا لمأساة الجنوب بل فاقمت من ويلاته. ومهما حاولتْ التبرير لما يجري فستورط نفسها بشكل مضاعف؛ إذ كيف يعقل كل هذه الهيمنة والنفوذ ولا توجد سياسية تنموية وبرنامج أعمار للجنوب المغضوب عليه؟ هذه قصة عويصة لا تمسكٌ منها برأس الخيط وستبقى تدور في دوامة الأسئلة من دون أن تفهم الجدوى من اعتبار الشيعة كقوة مهيمنة في العراق. فمن مكونات قوى الهيمنة الأربعة تأتي القوة الاقتصادية كعنصر أساسيّ في هذه البنية. والقوى السياسية الشيعية رغم امتلاكهم لإمبراطورية المال والسلاح والسياسة فلا زالوا يضعون المؤامرة كمفهوم جوهري في قاموسهم السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: الجنوب: من المسؤول عن الفقر وسوء الخدمات فيه؟

ويبدو أن اندراجهم كقوة مهيمنة في الوقت الحالي لم يغير من المعادلة شيء من بؤس الجنوب؛ الفساد الإداري والمالي، وزيادة معدلات الفقر، واتساع رقعة العاطلين عن العمل، وضعف البنى التحتية، والنقص الحاد بالخدمات. الجنوب الذي يُعد الينبوع المتدفّق للثروة النفطية وأحد مصادر الثراء في هذا البلد، يغطس في دوامة من الفقر يحار المرء للإجابة عليها أو يعثر على تفسير معقول لما يحدث. لأنك لا تجد الإجابات الواضحة عند من يعنيه الأمر كونه مشغولًا بما هو أهم وأكثر شرفية من خدمة الناس؛ فإذا ذهبت المناصب ذهب معها كل شيء. ولا أعني بالذهاب هنا هو ذهاب القرار السياسي لإعمار الجنوب، فهذا القرار ليس من الأولويات كما يبدو، وإنما أعني ذهاب الثراء والجاه تحديدًا. ثمة مقايضة باتت واضحة للجميع وهي المتاجرة بالسلطة برأسمال قوامه دماء الفقراء من محافظات الجنوب.

 ولا تستغرب إذا سألتَ بعض ساسة الشيعة عن هذا السر المستتر في عدم إعمار الجنوب حتى هذه اللحظة وأجابوك بالمؤامرة. هذه الأخيرة تُعتبر الخبز اليومي للخطاب السياسي الشيعي، ويندر العثور على خطاب عقلاني وموزون يجازف بنقد الذات؛ دائمًا ما نجد الآخر"المتآمر" حاضر بقوة في أدبيات الشيعة السياسية. شيعة السلطة بكل إمبراطوريتهم الأمنية والعسكرية الضخمة وأغلبيتهم السياسية وهيمنتهم شبه الكلية على كافة مفاصل الدولة العراقية يعجزون أن يجعلوا من محافظات الجنوب نموذجًا للتحضر والمدنية والتحديث مثلما هو الحال في دول الخليج على أقل تقدير.

العمال والكادحون، والمقاتلون والشهداء، والمعاقون والمرضى، والأيتام والأرامل، الباعة المتجولون والعتاّلون في سوق الخضار، وسائقو التوك توك وعربات الأحصنة، وسَكَنَة المدن العشوائية، ومقاتلو الحشد الشعبي، كل هذه الفئات المغلوب على أمرها ستجد أن أغلبيتها الساحقة من أصول جنوبية.

وفي الحقيقة ما من سر مؤرق ووصمة عار تاريخية في جبين الساسة تكفي كسؤال يمكنك أن تهتدي منه للإجابة عن لغز الجنوب. ستبقى تدور في فلك واحد وتأخذ منك الحيرة مأخذًا؛ فهل يعقل بعد كل هذه الثروة النفطية، وبعد كل هذا الولاء والإسناد الذي يبديه أهل الجنوب لقادتهم يتم التعامل معهم بهذا الشكل الذي يدعو إلى العار؟ سؤال حقًا مؤرق ويثير الوجع.

 والقضية على ما يبدو تتعدى الفساد؛ ذلك أن الفاسدين مطالبون بالعمل لكي لا تتضح مخازيهم فيقدمون بعض النماذج المقنعة كمقابل للتغطية على سرقاتهم. من هذه الناحية تبدو القضية لا تنحصر في قصة الفساد، ولا ندري أن كان هنالك "فيتو" على إعمار الجنوب. لكن فيتو من أي جهة؟ وحدها النخب الشيعية قادرة على فتح ملفات بهذا الثقل، هذا إن كان ثمة ملفات سرية كما نزعم على سبيل الاحتمال.

وحتى لا نقع في التناقض للإجابة عن هذا اللغز، لأننا قلنا أن الإجابة على السؤال المتعلّق بمأساة الجنوب يثير الحيرة والأرق. لكن يمكن وضع التبريرات التي تلوكها ألسنة القوى السياسية الشيعية على شكل أجوبة لهذا السؤال لكي نفهم مقدار العجز والارتباك الذي يبديه هؤلاء تجاه الأسئلة الجديّة. أول الإشكاليات التي تعقد القوى الشيعية آمالها عليها كتبرير مقنع لعموم الشيعة حول فشلهم الذريع في إدارة الملفات الكبرى هو حزب البعث المنحل (رغم أن هذا الأخير لا يظهر إلّا في الملفات الأمنية)، حيث لم يفارق شبح البعث ذاكرة الساسة الشيعة وما أن يحدث أي شيء، إلّا ورأيت بالخط العريض عودة البعث مرة أخرى على ألسنتهم، فقد أصبح هذا الشبح سلوة عزاء ومبررًا معقولًا ومقنعًا لتمرير كل السياسيات الفاشلة والإخفاقات التي مُنيت بها القوى الشيعية.

والإشكال الثاني هو الولاء لأهل البيت؛ فكونك شيعي موالي لأئمة أهل البيت الأثني عشر فمعنى هذا أنت في عداد المغضوب عليهم، بل ستتحول إلى عدو وستقف بوجهك القوى الطائفية المضادة وستقف بالضد من أي حركة إعمار في الجنوب أو أي مدينة ذات غالبية شيعية؛ فإذا رأيت شارعًا تكثر فيه المطبات، وغياب المحطات اللازمة لتحلية ماء الشرب، أو شيوع الجريمة المنظمة، ومافيات الفساد، وتجارة المخدرات، وفقدان الأمن، وغيرها الكثير من الأمور، فالسبب راجع لحزب البعث وبغض الشيعة! ألم يقل هادي العامري إن "حب الحسين كان ضريبة لمنعهم من إعمار الجنوب".

 إخفاق النخب السياسية راجع إلى رفضها المستمر لبناء المؤسسات وولائها العابر للحدود وكراهيتها الشديدة لمفهوم الدولة

طبعًا دخلت على الخط قوىً مضادة جديدة يمكنها أن تلهب الخيال الشعبي لفترة طويلة وأعني به حركة "داعش" الإرهابية. ولا أحد يقلل من خطورة هذه الحركة البربرية بالتأكيد، لكن حين تغدو شمّاعة وأحد أعمدة التبرير فلا يبقى أي وزن للمنطق، بل لا يبقى وزنًا لما تسجلّه الوقائع، فهذه الأخيرة تقول إن إخفاق هذه النخب السياسية راجع إلى رفضها المستمر لبناء المؤسسات، وولائها العابر للحدود، وكراهيتها الشديدة لمفهوم الدولة، وخطابها العقائدي الذي لا تحسن غيره. ولكي لا يتجنّى أحدنا بالأحكام عليه أن يراجع القاموس السياسي لهذه النخب، فهل سيعثر على مفهوم واضح للدولة؟ اللهم إلا من حيث كونها "مجهولة المالك"!

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

محافظات الجنوب.. الإهمال من الحكومات

ماركس في ضيافة "الشروكية"

الكلمات المفتاحية

الحروب.jpg

2025.. عام الحرب والسلام

الحروب هي في الأساس توترات مؤجلة انفجرت وتصاعدت بسرعة


الدراما في العراق.jpg

المسلسلات في "عام الإنجازات"!

هناك أسئلة عديدة حول المنحة الحكومية للدراما في العراق خلال 2024


احتفالات في غزة.jpg

نعم.. انتصرت غزة

الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة


مسعود بارزاني السوداني.jpeg

خلافات بغداد وأربيل.. تنافس يوضح المشهد السياسي لانتخابات 2025

لا يمكن أن تأتي إعادة تشكيل القوة في العراق إلا نتيجة لحدث عراقي أو إقليمي كبير من شأنه أن يعيد ضبط اللعبة

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert