رأي

قانون العشائر: حماية اللصوص

2 أكتوبر 2021
زعماء-العشائر-في-العراق_0.jpg
كلما أعلنت الديمقراطية سيادتها كان شبح الاستبداد أقرب للظهور (تعبيرية/فيسبوك)
رعد أطياف
رعد أطياف كاتب من العراق

في كل البلدان التي تحترم نفسها وتعيش في ظل دولة المؤسسات لا يمكنها أن تتعايش مع قانونين في نفس الوقت كما يحدث في المجتمعات التقليدية. فالدولة الحديثة تجاوزت كل الأنماط القديمة في الحكم، واستطاعت أن تحتكر العنف عبر حصر الشرعية والسيادة بسلطتها القانونية، وكل الشرعيات الأخرى باطلة بالضرورة، ويجري عليها حكم القانون المدني، وإصدار العقوبات اللازمة ضد كل من يهدد السلم المجتمعي ولا ينصاع لسلطة الدولة، حتى لو كانت من أعرق العشائر ذات النفوذ التاريخي العميق. فالوجود الأصيل لجماعة تاريخية شيء وعرقلة السلم المجتمعي ومنافسة الدولة على السيادة واحتكار القانون شيء آخر.

في العراق يمكن أن ترى شريعتين بنفس الوقت؛ شريعة القانون المدني وشريعة العشيرة

 هذا الكلام يُعد بمنزلة البداهة في البلدان الحديثة التي تعايشت وتصالحت مع فكرة الدولة، ولما لهذه الأخيرة من سيادة وقوة تحافظ من خلالها على أمن المجتمع. وبعبارة أخرى أن نشأة المدينة وميلادها هو ميلاد الدولة القانونية والديمقراطية الحديثة. وأن نشأة المجتمعات التقليدية هو ميلاد الاستبداد وسيادة سلطة الجماعة. وفي العراق يمكن أن ترى شريعتين بنفس الوقت؛ شريعة القانون المدني وشريعة العشيرة، وهذا التناقض يفضي بالضرورة إلى إضعاف سلطة الدولة وشرعيتها.

اقرأ/ي أيضًا: فزاعة العشيرة العراقية.. سيف المحاصصة المشهر

ولرسوخ الديمقراطية وجذورها العميقة في المجتمعات ذات التاريخ الديمقراطي العريق، أنها حتى لو شهدت الحروب واخترقتها الدكتاتوريات لفترة من الزمن فأنها ستعود قوية ومعتبرة من أحداث الماضي ولا تلبث أن تستيقظ الديمقراطية من سباتها المؤقت. حين تم اختراق أوروبا من قبل النظم الفاشية والنازية وأعلنت نفسها كسلطة شرعية في هذه البلدان وأسهمت في خرابها عبر الحروب، لكن لم يمهل الأوروبيون أحداث التاريخ أن ترمي بهم في غياهب المجهول ليتحكم بهم قرون طويلة ويستسلموا للتراجع الحضاري، فاستعادت ألمانيا المهزومة ذات الكبرياء المجروح موقعها بين البلدان المتقدمة، وتصالحت أوروبا، بعد حربين طاحنتين وثمن باهظ للغاية، مع ذاتها، واستعادت موقعها السياسي والاقتصادي والثقافي، وانتصرت قيم العدل، والمساواة والديمقراطية، والمواطنة، وحكم القانون. ومن ثم علينا أن نطرح هذا السؤال: كيف سيكون حال الأوروبيون لو كانت أغلبيتهم أغلبية عشائرية؟ من المرجّح أنهم سيعانون من طول أمد الاستبداد وما يلحقه من تخلّف على كل المستويات.

إن التنظيمات المحلية داخّل الدولة الحديثة هي تنظيمات اجتماعية تعاونية يُطلق عليها ما يسمّى "مجتمع الأحرار"، ولهذه العبارة وقعها الثقيل في مجتمعاتنا التي لم تعترف حتى هذه اللحظة بمحاسن الديمقراطية، وتدمج وتتعايش، وبنفس اللحظة، بين قانون العشائر الذي يحمي اللصوص، وبين القانون المدني الحديث. مختصر القول إن نظمنا السياسية، وحرسها القبلي القديم، أعلنت عدوانها على الديمقراطية وقيمها، وأنتصرت للرعوي على حساب السياسي، للقبلي على حساب المدني، للعبيد على حساب الأحرار، للجماعات التقليدية على حساب المجتمع الحديث. وكانت نتيجتها كما نرى: يتعايش العراقيون وهم في الألفية الثالثة مع قانون العشائر كما لو أنه نص مقدّس وبالخصوص قانون حماية اللصوص سيئ الصيت.

إذا كان الأمر بهذه الصورة في المجتمعات الديمقراطية المتقدمة التي أوضحناها قبل قليل، ففي المشرق تبدو القضية معكوسة تمامًا: كلما أعلنت الديمقراطية سيادتها كان شبح الاستبداد أقرب للظهور ويحظى بقبول واسع. إذ كيف لمجتمع يستبدل الاستبداد والحرية وهو ينتصر لقانون حماية اللصوص عبر تشريع قوانين عشائرية توفّر له الحياة الآمنة! لذلك لا نستغرب في بلدان ذات بنية عشائرية، مثل العراق، تتعثر فيها الديمقراطية ويترسّخ فيها الاستبداد لدرجة تقديسه وتبجيله واعتباره جزء لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية وما عداه طارئ ودخيل لا يصلح في مجتمع يقدّس قيم العشيرة مفضّلًا إيّاها على قيم الدولة الحديثة. ومنذ نشوء الدولة العراقية الحديثة لم تفكر الأنظمة التي توالت على حكم العراق بتحجيم قانون العشائر بل كانت الوقائع تشير خلاف ذلك. فمن هنا لا يجد العراقيون حرجًا من التعايش الطويل بين قانونين، بل ثمّة فئات واسعة لا ترتبط بالقانون المدني قوة ارتباطها بقانون العشائر، وهي وإن تمّتثل للقانون المدني لكنها لا تتجاهل الثاني على الإطلاق. لأن الأول لا يبلغ درجة التمثيل الحقيقي ولا يبلغ درجة الإذعان الاختياري، أما الثاني فهو على درجة عالية من التمثيل للفرد العراقي ويتمتع باختيار وإذعان طوعي.

حينما كان الريف أوسع من المدينة كان قانون العشيرة منسجمًا مع حياة المزارعين، وكان قانون حماية اللصوص يتلاءم وطبيعة الحياة الريفية آنذاك. لم تكن ثمة حواضر مدنية ولا تخطيط عمراني واسع ومعقد، بل كانت أكواخ بسيطة يقطنها المزارعون تفصل بينها مسافات واسعة. وكانت تتعرض هذه الأملاك بين الحين والآخر إلى سطو يطال مخزون الحبوب الذي يدّخره المزارعون أو يتعدى على ماشيتهم فيسرق بعضًا منها. كانت هذه العادات سائدة ويتم تصنيفها ضمن قيم الرجولة والشجاعة. ولكي لا تكثر الادعاءات والأكاذيب والتلفيقات والاتهامات الجزافية، ونظرًا لعدم وجود خدمات الطاقة الكهربائية في ذلك الوقت شرّعت العشائر هذه القانون للكف عن الاتهامات غير المسئولة؛ إذ يمكن أن يُقتل فرد العشيرة وهو يتسكُع في الليل بالقرب من أحد الأكواخ فيتعرّض للقتل بحجة السطو في منتصف الليل. ودفعًا للمحاولات الكيدية التي قد تحدث بين الأشخاص قررت العشيرة الدفاع عن هذا المتهم "اللص" لأنه لم تثبت عليه التهمة وقد تكون مكيدة لا أكثر وقد يكون مر بالقرب من كوخ أحدهم فأرداه قتيلًا بحجة السرقة. وأنت كما ترى يبدو هذا القانون في مجتمع المزارعين ملائم إلى حد كبير. غير أن المصيبة الكبيرة ظل هذا القانون ساريًا حتى كتابة هذه السطور! تعمد العشيرة إلى حماية اللص من القصاص وذلك عن طريق معاقبة العشيرة الأخرى التي تتجرأ بالدفاع عن نفسها في حال تعرضها للسطو. حين يسطو اللص على أحد البيوت ويقوم صاحب الملكية بالدفاع عن نفسه وقد يُقتل اللص في حال الاشتباك. غير أن القانون العشائري له أمر آخر؛ فسينتقم لهذا اللص ويطالب بدية المقتول من صاحب الدار.

 كلما أعلنت الديمقراطية سيادتها كان شبح الاستبداد أقرب للظهور ويحظى بقبول واسع

هذه ليست حكاية من القرون الوسطى، بل هي ظاهرة تاريخية ومتأصلة في المجتمع العراقي، وتشتد سطوتها في المناطق ذات الأغلبية العشائرية، ولا زلنا حتى هذه اللحظة نعاني منها. ويبدو أن الدولة وجهازها الإداري الضخم لم يستطع الحد من هذه الظاهرة المشينة في بلد يعنون نفسه على أنه ذو نظام سياسي ديمقراطي! وحتى ذلك الحين نتمنى على الجهات النافذة (من هي الجهات النافذة؟!) أن تسارع في تجريم هذه الظواهر التي تتقاطع كليًا مع قانون الدولة وسيادتها. لا لتشريع قانون فحسب بل تتخذ سياسات حازمة لكل محاولة لإضعاف سيادة الدولة. نكتب ذلك لكي نوضَح معنى مفهوم "اللا دولة" الشائع هذه الأيام في قاموسنا السياسي، ولكي نعرف بالضبط لماذا يميل العراقيون، أو بالأحرى، لماذا يتقبلون بطيبة خاطر قيم الجماعة على قيم المجتمع الحديث؟ أنظر إلى عناصر ثقافتنا فستعرف الجواب.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ثقافة العشيرة: المشكلة هي الحل!

المرأة أسيرة "النهوة".. من يقف بوجه العشائر؟

الكلمات المفتاحية

الحروب.jpg

2025.. عام الحرب والسلام

الحروب هي في الأساس توترات مؤجلة انفجرت وتصاعدت بسرعة


الدراما في العراق.jpg

المسلسلات في "عام الإنجازات"!

هناك أسئلة عديدة حول المنحة الحكومية للدراما في العراق خلال 2024


احتفالات في غزة.jpg

نعم.. انتصرت غزة

الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة


مسعود بارزاني السوداني.jpeg

خلافات بغداد وأربيل.. تنافس يوضح المشهد السياسي لانتخابات 2025

لا يمكن أن تأتي إعادة تشكيل القوة في العراق إلا نتيجة لحدث عراقي أو إقليمي كبير من شأنه أن يعيد ضبط اللعبة

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert