في سنوية تشرين الأولى.. شعلة وسط العتمة
8 أكتوبر 2020
منذ القدم والحياة عبارة عن صراع ما بين قوى الحفاظ على الوضع الراهن، والقوى الراغبة بتغييره، بين السادة والعبيد، وعلى سبيل المثال، يرى الفيلسوف هيجل أن المجتمع المدني كان نتيجةً للصراع بين السيد والعبد، فالعبيد وعبر التاريخ دخلوا في العديد من الصراعات مع سادتهم؛ من أجل نيل أبسط حقوقهم، أبسطها كرامته كإنسان، أن يتم الاعتراف به ككائن بشري، ومع مرور الزمن، أخذت سلطة السادة تتهشم أمام ما يطالب به عبيدهم، ولربما أن مثال الملك المطلق السلطات، النظام الملكي البريطاني المطلق، الذي دخل معه الشعب البريطاني في صراع من أجل التقليل من سلطاته المطلقة، وابتدأت هذه المسيرة منذ عهد الماكنكارتا في القرن الثالث عشر ميلادي، واستمرت طوال قرون عدة بعد ذلك، ليصل الشعب البريطاني في هذا الصراع، إلى نظام ملكي لا يتمتع فيه الملك بأية سلطات (نظام ملكي دستوري)، وهذا يعد المثال البارز لفكرة هيجل.
نظرًا للمتغيرات التي فرضتها انتفاضة تشرين على الساحة العراقية من الصعب القول إنها فشلت أو لم تحقق جزءًا من أهدافها
ويحتدم هذا الصراع ويشتد؛ كلما اشتد غلق القوى المستفيدة من الوضع القائم الباب على نفسها، واستأثرت بكل الامتيازات، والثروات، فضلًا عن السلطة. لهذا يقول نوح فيلدمان في كتابه "الحرب الهادئة" (إذا أُتخم النظام بورثة النخبوية، ومن ثم عمد إلى إقصاء أصحاب الموهبة الساعين إلى الدخول فيه، فإنه سيضع نفسه في موقف تقليدي جدًا، نهايته ثورة) ولعل الأمثلة الثورية عديدةٍ على هذا الكلام منها: الثورة الفرنسية عام (1789)، والثورة البلشفية عام (1917)، والثورة الصينية عام (1949)، وحتى أن الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الملكية العربية، التي حدثت في منطقتنا العربية في القرن العشرين، يمكن أن تندرج ضمن سياق فكرة فيلدمان.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين: الموت من أجل الحياة
ويرى هانز مورغنثاو في كتابه "السياسة بين الأمم: الصراع من أجل السلطان والسلام"، أن السلام الداخلي لن يتحقق من دون توفر ثلاثة شروط وهي:
- القوة الطاغية
- الولاءات فوق الإقطاعية
- الإحساس بالعدل
وبالنظر إلى هذه الشروط، نجد أن تشرين قامت على أساسها؛ إذ رغبت بأن تكون هنالك دولة قوية، وولاءً وطنيًا عابرًا للهويات الفرعية، والعمل على أن يكون العدل أساس الملك في البلاد، وكان شعور الغالبية الثائرة أو المنتفضة، هو الاحساس باللاعدل، وعلى هذا الأساس تحركت وثارت ضد النظام القائم.
وعلى الرغم مما واجهته من بطش وتنكيل، نجد أنها استطاعت أن تحقق العديد من المتغيرات لعل أبرزها:
- الرمزية الوطنية لدماء الشباب الثائر الذين راحوا ضحيةً لبطش السلطة القائمة.
- أنظروا إلى أغلب الساسة كيف أنهم كتبوا عن سنويتها التي صادفت 1 تشرين الأول (2020)، ولا يهم إن كان هذا بابًا من أبواب التملق، أو البراغماتية السياسية، فالأهم أن تشرين باتت رقمًا صعبًا لا يمكن تجنبه في المعادلة العراقية.
- حتى من هم ضدها باتوا يخشون البوح بذلك.
- إن البرلمان والحكومة لا يستطيعون تجاهل مطالبها مخافة فوران الشارع ضدهم.
- أنظروا إلى قناة العراقية كيف تغيّر نهجها، والتي دائمًا ما كانت "قبل الثورة"، صوت السلطة لا الشعب.
- طالعوا في إرادة الشباب الذين لا يخشون بطش السلطة، وكأنهم هنا يقولون للفيلسوف جان جاك روسو لن ينطبق علينا قولك (إن المرء ليعيش هادئًا، مطمئنًا كذلك في الزنزانة، فهل هذا يكفي ليجد نفسه سعيدًا فيه؟ كان الإغريق المسجونون في كهف الغول، يعيشون هادئين وهم في انتظار دورهم ليفترسهم الغول). فنحن لن ننتظر غول السلطة الفاسدة ليفترسنا ولن نستسلم له، وسنكون مصدر إزعاج دائم له. وغيرها من المتغيرات التي فرضتها تشرين على الساحة العراقية؛ لذلك من الصعب القول بأنها فشلت، أو لم تحقق جزءًا من أهدافها.
إن أسوأ ما تواجهه في الوقت الراهن، المحاولات الرامية إلى إلصاقها بحكومة الكاظمي، وإذا ما حاول الناس الخروج من جديد للتعبير عن سخطهم؛ سيقال إنها حركةً مضادةً تستهدف الحكومة الحالية المعبرة عن إرادة تشرين، الأمر الذي قد يشرعن عملية مواجهتهم. الشاهد على كلامي هذا بيان رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي جاء بمناسبة مرور عام كامل على بداية ثورة تشرين، وزعم فيه أن حكومته جاءت بناءً على خارطة الطريق التي فرضها حراك الشعب العراقي. أعتقد أن هذا الكلام تزييف للحقيقة، ومحاولة ترمي إلى سرقة الثورة، كما أن أي فشل للحكومة الحالية، سيعني توجه سهام النقد نحو تشرين، باعتبارها أي هذه الحكومة تشكلت بناءً على إرادتها، إذ على الرغم من الأهداف العديدة التي حققتها الثورة، إلا أن ذلك لا يعني أن حكومة الكاظمي جاءت بناءً على إرادتها، فغالبية أنصارها لم يخرجوا، وضحوا بالغالي والنفيس، من أجل تغيير، أو تشكيل حكومةٍ جديدةٍ، جاءت بها الأطراف المناوئة للثورة؛ وإنما خرجوا من أجل تغيير الواقع العراقي برمته، ومن ثم فإن الكاظمي جاء بعد التوافقات بين الكتل السياسية المسيطرة على المشهد العراقي، فضلًا عن التوافق الخارجي، وصارحه بذلك زعيم حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، بقوله له إنك جئت من أجل أمرين، تحسين الاقتصاد، ومواجهة أزمة كورونا، عدا ذلك "غلّس" أي تجاهل وغض الطرف عن الأمور الأخرى التي هي أكبر منك. وهذا ما يرفضه معظم أبناء تشرين جملةً وتفصيلًا.
ومن ثم فإن نظام ما بعد 2003 لم يعد يمتلك ما يقدمه للشعب، لذلك يراد من تشرين أن تكون شماعةً يُعلق عليها فشله، ويبرأ عبرها سادته الذين أخرجوا الشعب من المولد بلا حمص، فيما لو فشلت حكومة الكاظمي في إدارة البلاد، وهذا واردٌ بنسبةٍ كبيرةٍ. إذ سابقًا كانت لديه ـ أي نظام ما بعد 2003 ـ الموارد النفطية العالية، التي استطاع عبرها توظيف ملايين الناس في القطاع العام، وعلى الرغم من بؤس الخدمات العامة المقدمة لهم، وحجم الفساد السياسي، والمالي، والإداري، إلا أنه استطاع أن يضمن سكوتهم، وحيادهم، حتى أن الغالبية المطلقة منهم سكتت إزاء الجرائم التي ارتكبت بحق ثوار تشرين. هذه المسألة أيضًا خرجت من يده، فمع هبوط أسعار النفط إلى مستويات متدنية، واستمرار الفساد، بات يستحيل عليه توفير وظائف جديدة، وأضحت مسألة تأمين الرواتب للموظفين، والمتقاعدين الحاليين في غاية الصعوبة، وفي ظل هذا الوضع المتأزم، كيف يمكن له أن يتعامل مع مطالب الفئات العديدة التي بلا عمل؟ والبلد بالأساس يعاني العديد من الأزمات التي لا نريد أن نكررها هنا، إذ باتت مثل آذان الصلاة يكرر خمس مرات في اليوم الواحد. لذلك وصل إلى أفق مسدود ولا حل أمامه؛ فإما أن تظهر شخصيةً منه تسيطر على الوضع، وتفرض الأحكام العرفية وهذا مستبعد. أو أن تشرين أخرى قادمة لا محالة، وستكون أشد قوةً، وتنظيمًا من الأولى، وستنظم إليها فئاتٌ أخرى ظلت على الحياد في الثورة الأولى.
وما على أبناء تشرين إلا الاستعداد لذلك، وأول ما يفترض بهم العمل عليه، تلافي أخطاء الثورة الأولى، وقد يكون على رأسها ضرورة وجود تنظيمٍ حرٍ يقود الحراك الثوري، وتكون لديه أهدافًا واضحةً للتغيير السياسي، فلا يمكن أن نصف تنظميًا ما بأنه سياسي، من دون وجود ضمن روزنامة أهدافه: هدف الوصول إلى السلطة، فكل الثورات حددت بوصلتها الرئيسة نحو الوصول إلى السلطة، فلا يمكن الحديث عن التغيير، وأهم عقبة موجودةً أمامه متمثلةً بالنظام السياسي الفاسد، فكيف بفسادٍ أن يصبح مصلحًا في ذات الوقت؟! كما ينادي المطالبون بالإصلاح من داخل النظام نفسه. وأختتم المقالة بمقولةٍ لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر يقول فيها إن (الأمة قد تغفر لمن انتهك مصالحها، إلا أنها لن تغفر لمن أساء إلى كرامتها) وعليه خرج الشباب في تشرين، من أجل تضميد جراح الكرامة العراقية النازفة، طيلة السنوات التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق.
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات