رحلة الناشطين في الهروب وتجنّب "الكواتم".. من القاتل المعلوم إلى المجهول
16 أبريل 2021
ألترا عراق ـ فريق التحرير
هربوا من "درّاجات الموت"، والعجلات المظللة، كانوا يبحثون عن مدن تحتضنهم، شوارع هادئة، لا يحتاجون فيها إلى الحذر وتصفح وجوه المارة عند تجولهم، فلم تعد مدن البلاد، بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019، تتسع لوجودهم وقاتليهم، وفي محاولة منهم للاستمرار في الحياة، توجهوا نحو تركيا، تاركين خلفهم سُحب التخوين والمؤامرة، وهي تمطرهم بـ"العمالة".
يتكدس الكثير من ناشطي الاحتجاجات في تركيا هربًا مما يسموه "دراجة الموت" أو الكواتم
مئات الناشطين من مختلف المحافظات المحتجة، يتكدسون في سكن جماعي في تركيا، ولم يعرفوا بعضهم من قبل، فيما يتقاسمون ما يصل بعضهم من ذويهم، أو ما ادخروه من أيام العمل في العراق، غالبيتهم بلا عمل في بلاد الغربة، والقليل منهم، كانوا موظفين قبل الهروب، لكنهم فصلوا بسبب الغياب، دون أن يمنحوا إجازة، براتب اسمي، كما معمول به في التعليمات الإدارية.
ليس ترفًا
منصّات قريبة من الأحزاب الحاكمة والفصائل الملسحة، تلمّح إلى أن "سفر الناشطين كان جزءًا من مؤامرة مخطّط لها، نفذوا ما طُلب منهم أثناء الاحتجاج، وسافروا كمكافئة لهم، يعيشون في تركيا بنعيم وترف".
اقرأ/ي أيضًا: غيّبتهم "الميليشيات" وينكرهم القانون.. "ألترا عراق" يفتح ملف المختفين قسرًا
لكن علي منعم، وهو اسم مستعار لا ينشر اسمه الحقيقي "خوفًا على أهله"، كما يقول، يروي قصته التي بدأت منذ الجولة الأولى للاحتجاجات في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وتعاظم دوره في الجولة الثانية، إذ كان يدخل بسيارته إلى مقتربات جسر الجمهورية، حاملًا الطعام والمستلزمات الطبية إلى أن أصيب بساقه، وسقطت قنبلة غاز مسيل للدموع على سيارته، نقل إثر الإصابة إلى المستشفى ورقد لأيام هناك، وبعد خروجه بأشهر، نصحه أحد معارفه بالحذر، فهناك من يبحث عن المصابين في سجلات الطوارئ، لكن المحتج المتحمس، لم يصدق النصيحة، واستمر بعمله كسائق أجرة في سيارة بسيطة لا يتجاوز سعرها ستة آلاف دولار، لكن سيّارة مظلّلة تبعته، وكاد أن يفقد حياته لولا القدر، إذ أصابت رصاصتان مقعده بشكل جانبي.
ويقول منعم" لـ"ألترا عراق"، إن "خيار السفر لم يكن ترفًا بالنسبة لي والكثير مثل وضعي، لم يأخذوا التحذيرات على محمل الجد، حتى كان الموت قريبًا منهم، أجبرت على بيع أثاث منزلي، ونقل زوجتي وأطفالي للعيش مع عائلتي، وخرجت بعد دفع مبالغ مضاعفة لاستحصال الفيزا، وعبور العقبات الأمنية في مطار بغداد حتى باب الطائرة، وهنا بدأت أموالي تنفذ وأنا بلا عمل، فاضطررت لبيع سيارتي من خلال أخوتي في بغداد، وبنصف قيمتها".
في كانون الأول/ديسمبر 2019، أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن قلقها إزاء استمرار وتيرة الهجمات المميتة ضد المدافعين عن حقوق الإنسان وملاحقة نشطاء المجتمع المدني والمتظاهرين في العراق، وقال روبرت كولفيل، وهو المتحدث باسم المفوضية، إن "المفوضية تلقت خلال عشرة أيام فقط تقارير موثوقة عن ست حوادث منفصلة في بغداد وميسان وكربلاء والديوانية، أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ستة آخرين بجراح".
لا يختلف حال جمال مهدي (اسم مستعار) كثيرًا، إذ يشير إلى أنه تعرّض لمضايقات عديدة وأغتيل أحد أصدقائه، فما كان على والده، إلا إجباره على السفر وترك بغداد، ويعتقد أن "المعيار الأساس في الملاحقة هو التأثير في ساحات الاحتجاج، إذ لاحظ أن معظم الموجودين كانوا ضمن الدعم اللوجستي في محافظاتهم، أو ضمن الوجوه المهمة والمؤثرة".
ويقول مهدي لـ"ألترا عراق"، إن "كل المحاولات لم تنجح في حصولي على إجازة من مدرستي بالرغم من وجود تعليمات حول إجازة الخمس سنوات، أو أقل بحسب صلاحيات مدير تربية المحافظة، مستدركًا "لكن الأمر يتطلب وساطة من سياسيين ومتنفذين وهذا ما لا أقبله"، مبينًا "معظمنا يعيش الكفاف، والبعض الآخر يعتمد على ما يرسله ذويه، وهؤلاء قلة، ويتصدر هرم المعاناة المتزوجين، فنحن أقل مسؤولية منهم، ولا نفكر سوى بأنفسنا".
من القاتل المعلوم إلى المجهول
وسط هذه الظروف، لا يجد نشطاء خيارًا سوى الهجرة إلى أوروبا، والتي توفر السكن والطعام والأمان، فوجودهم بتركيا لا يعطيهم الأمان المطلق، إذ أكد العديد منهم تلقيهم تهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تشير إلى أنهم "ليسوا بعيدين عن مرمى الجماعات المسلحة".
ويقول حمزة حسن، وهو ناشط هارب من بغداد، إن "الهجرة نحو أوروبا هي الخيار الأجدى والأمل الوحيد لكل من يعيش حياة صعبة في تركيا، لكن المشكلة في آلية الوصول، فبالرغم من تعدد طرق التهريب بوصفه الطريقة الوحيدة، إلا أنها خطرة جدًا، وفي كل منها يكون الموت خيارًا قائمًا"، مستدركًا "تخيل أنك تهرب من قاتل في العراق معروفة الجهة التي تقف خلفه، أو أن مصيره المحتوم الكشف عنه، ولك بالآلاف القتلى الذين خلفهم نظام صدام حسين خير دليل، لتقتل وأنت مهاجر من قبل مجهول، دون أن ينعاك ذويك أو تكون لك شاهدة قبر".
تلقى العديد من النشطاء في تركيا تهديدات من قبل فصائل مسلحة تشير إلى أنهم "يعلمون بأماكنهم"
وأضاف حسن لـ"ألترا عراق"، "وصلت تركيا بعد تهديدي من قبل مجموعة مسلحة معروفة في منطقتي، رغم إصابتي بالحبل الشوكي أثناء الاحتجاجات، وبعد بحثي في سوق التهريب، وجدت تصدر حاملي جنسيات المغرب العربي السوق، إذ يوصفون بالثقة والبحث الدائم عن زبائن جدد، من خلال الإيفاء بالوعود والمصداقية، ليضمنوا الحديث عن أمانتهم، واتفقت مع أحدهم مقابل نحو أربعة آلاف دولار، مقابل إيصالي لليونان عبر البحر، وبعدها أتكفل بوضعي".
وتابع حسن: "عند وصولنا، تم القبض علينا من قبل الشرطة اليونانية والتي سلمتنا لمرتزقة من مختلف بلدان العالم، غير خاضعين لرقابة المنظمات الإنسانية، والتي بدأ دورها يتراجع بشكل كبير، مبينًا أن "تعامل المرتزقة لا يمكن وصفه، جعلونا عراة على البحر، وسلبوا كل ما نملك، وكانوا يضربوننا بالعصي، وهنا الحظ وحده من يحدد مصيرك، ممكن أن يقوموا بتكبيلك ورميك بالبحر، أو يعذبونك بالماء، والمرتزقة هم من أكراد سوريا والعراق وتركيا"، لافتًا إلى أنه "خسر جميع أمواله، وعاد إلى سكنه مع أصدقائه، وهو يعاني من كسور وجروح بليغة".
مغامرون بلا حدود
تتطلب طرق التهريب، مبالغ كبيرة، تتراوح من "2000$_10000"، بحسب ناشطين حاولوا الهجرة، لكن الطريقة الأقل تكلفة تسمى "المغامرون بلا حدود".
علي منعم، وبعد بيعه لسيارته وتوفير جزء من مبلغها لعائلته، فيما استنزف المتبقي على مصروفاته في تركيا، يقول: "اضطررت لبحث خيار الهجرة من خلال التهريب، وبعد تواصل مع عدد من المهربين من مختلف الجنسيات، لكن طلباتهم كانت مبالغ تتراوح بين الـ"2000 و 4000$"، مقابل إيصالي إلى صربيا عبر سلسلة مدن، ومن هناك تحتاج مهرب آخر، فضلًا عن انعدام الثقة بالمهربين، ما دفعني إلى اختيار الهجرة مع (مغامرون بلا حدود)".
اقرأ/ي أيضًا: إرهاب النشطاء وترويعهم.. ماذا تعرف عن مسلسل الهجرة العراقية الثالثة؟
وعن "مغامرون بلا حدود" يقول منعم لـ"ألترا عراق"، "هناك متعهد، يتفق مع مجموعة من المهاجرين، على إيصالهم إلى نصف نهر إيفرص الخاص بالجانب التركي، مقابل 100$، والمتابعة معهم عبر الهاتف ليرشدهم عن طريق تطبيقات الخرائط، ليمشوا نحو 18 يومًا، في الجزر والغابات، اتفقنا وجهزنا حقائبنا، أطعمة وشاحنات هواتف متنقلة، وانطلقنا عصرًا من أسطنبول، وتجاوزنا الجانب التركي من نهر إيفرص في الساعة 11 مساءً، وبدأنا رحلتنا بالاعتماد على نقاط ثبتها لنا على الخارطة، والتي تتطلب اتصال بإنترنت دولي، وهذا سبب مشكلة، ولم نشعر إلا نحن أمام مستنقع كبير، يصل مستوى عمقه إلى رؤوسنا، ووجدنا هناك عشرات الملابس والأحذية المرمية، ولا نعلم مصير أصحابها، مضيفًا "كانت درجة الحرارة تقترب من الصفر، ونحن خارجون من المستنقع كدنا نفقد حياتنا من شدة البرد، حاولنا أشعال النار لكن فشلنا، وتقدمنا نحو مستنقع آخر، تجاوزناه، ودخلنا الغابات، وصولًا لمدينة كافالا وهي أول مدينة يونانية، وبعد تجاوزها بمسافة قصيرة، شرقت الشمس، فقررنا الاستراحة بعد أن تضاعفت أوزان حقائبنا".
وتابع منعم: "خيمنا لثلاث ساعات بعد المدينة، كنا نعاني من نقص في الطعام، يشترك كل اثنين في علبة المعلبات قبل نومنا، وصلتنا الجندرمة اليونانية، وكان تعاملهم في البداية جيدًا، لكنهم سحبوا كل ما نملك؛ الهواتف والأطعمة والمال والملابس واقتادونا للسجن، وبعدها سلمونا إلى مرتزقة جردونا ملابسنا، وصعدونا في سيارة، بعد هجوم كبير بالعصي أيضًا، سارت بنا سيارة إلى النقطة التي دخلنا منها، وبملابس مبللة، وبلا أحذية، ونسير على أرض منجمدة، سحبوا الأموال التي أعادوها لنا الشرطة ومقتنياتنا الشخصية والسجائر، أمرونا بأخذ وضعية القرفصاء وأخذوا يشتموننا ويضربونا، حتى أنهم تبولوا علينا، وانضم إلينا نحو 60 شخصًا آخرين بينهم عوائل، وأوصلونا إلى الجزيرة التركية التي انطلقنا منها، دون أن نعلم نحن في أي مكان، ومرت هذه الإجراءات خلال يومين، من دون طعام أو شراب أو تدخين، بعدها تواصلنا مع المهرب الذي أمن لنا سيارة من الحدود حتى أسطنبول التي دخلناها بدون ملابس".
وأشار منعم إلى أن "التعامل يتعلق بالجانب السياسي بالدرجة الأولى، ففي السنوات السابقة عندما كانت الحكومة التركية لديها تفهامات مع الاتحاد الأوروبي، كانت العقبات والقيود تتعلق بعبور الجانب التركي، وعند الوصول لليونان، فالحكاية سهلة، لكن اليوم الحكومة التركية هي من تدفع بالمهاجرين للضغط".
وحول أنواع أخرى من التهريب، قال حمزة حسن، إن "المهربين المغاربة يوصلون المهاجرين إلى اليونان مقابل 2000 دولار، بشاحنة يقودها سائق يحمل جنسية أوروبية، لأن القانون يتيح له التنقل بين تركيا واليونان والتسليم يكون بعد الوصول، من خلال رهن المبلغ عند مكتب خاص، وهناك من يخرج عبر بواخر شركات النفط والملاحة، ولكنها لا تخلو من الخطورة، إذا يمكن أن يبلغ عليك أحد العمال، لذلك يختصر الأمر على قبطان السفينة"، لافتًا إلى أن "الهجرة عبر البحر الأكثر خطورة، لأنها مهددة بالعواصف وارتفاع الموج، فضلًا عن القسوة في التعامل من قبل السلطات اليونانية، ويمكن أن تقتل أو ترمى بالبحر وحتى وصولك لليونان، يضعك أمام رحلة بحث جديدة عن مهرب لصربيا أو بلغاريا، ومن هناك مرحلة أخرى، والكثير كانوا هدفًا لتجار الأعضاء البشرية".
وتتصدر محافظة ميسان، المحافظات التي يُطارد ناشطيها، إذ تجاوز عددهم 50 ناشطًا، مشردين في داخل العراق وخارجه، فيما يعد رئيس منظمة أبناء النازحين في المحافظة مجيد الربيعي، ميسان كمدينة منكوبة ومظلومة إعلاميًا، معللًا ذلك بـ"ضعف صحفيي المحافظة في تسليط الضوء على الانتهاكات، وسطوة الأحزاب والجماعات المسلحة على الأجهزة الأمنية فضلًا عن الطبيعة العشائرية، ما يجعلها ذات خصائص مختلفة عن بقية المحافظات".
وقال الربيعي إن "أول محاولة اغتيال تعرضت لها يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وستة أيام تعرّض الناشط أمجد الدهامات لعملية اغتيال، وأخذت العمليات تتكرر، حتى وصلت لـ16 عملية، 5 منهن ناجحات، حتى خلت المحافظة من ناشطيها وأبرز الوجوه فيها، وفراغها للحزبيين والمرتبطين بجماعات مسلحة"، لافتًا إلى أن "الوضع مأساوي للناشطين المشردين في محافظات عديدة بالإضافة إلى الإقليم وتركيا".
وتابع الربيعي في حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "الموظفين من الناشطين يتعرضون لضغوطات شديدة، بالرغم من ظروف فيروس كورونا، ونسبة 25% من الكوادر التي تباشر يوميًا في الدوائر، والهرب خارج المحافظة لا يعني الخلاص، فالكثير منا يتعرض يوميًا إلى تهديدات باختطاف أحد أفراد عائلته، لمجرد أن يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع بعض الناشطين إلى نقل ذويهم إلى محافظات أخرى، لكن آخرين تربطهم علاقات وعمل في محافظتهم"، لافتًا إلى "ضعف دور المنظمات الإنسانية والدولية في دعم الناشطين، أو فتح ملفات لضمان مستقبل الناشطين ما يجعلهم أمام مصير مجهول".
في محافظة ميسان، تجاوز عدد الناشطين المشردين داخل العراق وخارجه 50 ناشطًا
ولم تقتصر عمليات الاغتيال في ميسان على الناشطين، حتى وصلت إلى عوائلهم، إذ اغتيل جاسب الهليجي، والد المحامي والنشاط المغيب علي جاسب، بعدما استمر الأب في المطالبة بالكشف عن مصير ابنه.
اقرأ/ي أيضًا:
أسرار نظام "لصوص العراق": كيف تلقي واشنطن أطنان الدولارات إلى الميليشيات؟
الكلمات المفتاحية

بعثة الناتو: عملنا سيستمر لأعوام بالعراق.. وندرب قواته على إغلاق الحدود مع سوريا
الاتفاق مع الحكومة العراقية على 32 هدفًا طويل الأمد لدعم مهمة الناتو في العراق

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات