دولة ديمقراطية أم "مبادرات" لجبر الخواطر؟
16 نوفمبر 2021
"إبداء أعلى درجات المرونة والاحتواء والتطمين للأطراف المشاركة في التفاوض، واحترام خيارات الأطراف التي ترغب بالمشاركة أو المعارضة أو الممانعة حكوميًا أو برلمانيًا". فقرة من مبادرة السيد عمار الحكيم.
المراقب لسير الأحداث لا أظنه سيخطأ هذا الافتراض: إن عموم الكتل السياسية مصابة بالعدائية والنفور تجاه الديمقراطية باستثناء الأقلّيات السياسية مثل السنة والكرد، فهؤلاء لم يقبلوا بمكاسب الديمقراطية إلا من حيث كونها حصص ثابتة. ولو خُيّر السنة والكرد بين الديمقراطية والاستبداد لاختاروا هذا الأخير شريطة أن يضمن لهم استحقاقاتهم. أما وجع الرأس الذي تجلبه الديمقراطية فلا أظن الفريقين مؤهلان حاليًا للقبول بالديمقراطية. وما ينطبق على هؤلاء ينطبق على الكتل السياسية الشيعية تمامًا، والتذكير بهذه الحقيقة يغدو تدويرًا لما كتبناه في عدّة مرات.
أسس الديمقراطية لم تعد وسيلة لتهدئة نفوس الكتل السياسية وإنما مزيد "من المبادرات" وجبر الخواطر وترضية "الزعلانين" للحفاظ على السلم الأهلي!
من هذه الناحية معظم الكتل السياسية لم تقبل بالديمقراطية بوصفها رافعة للطغيان بقدر ما هي مكاسب فئوية، ومصادر أرزاق لـ"أعيان" العملية "الديمقراطية" في العراق. وهؤلاء الأعيان لا يتقبلون أو لا يعترفون بثنائية الفوز والخسارة على الطريقة الديمقراطية.
اقرأ/ي أيضًا: مبادرة الحكيم.. خلطة لجمع الفائزين بالخاسرين وتحذير من دماء
إن الديمقراطية، وانطلاقًا من المبادرة الحالية السيد عمار الحكيم، تشدد على أن "هذا الاتفاق بحاجة إلى وعي وتضحية من قبل جميع الأطراف دون الإضرار بحقوق الفائزين ولا القفز على مطالب المعترضين، للمضي قدمًا والخروج من الاختناق السياسي الحاصل". ولهذه الوسطية الغريبة أكثر من علامة استفهام؛ فالفائزون في النظم الديمقراطية يبادرون إلى تشكيل الحكومة بعد إنهاء المصادقة عليها، والخاسرون يحق لهم تقديم طعونهم والبت بها عن طريق الجهات القانونية المختصة، فكأن السيد عمار الحكيم يتكلم من خارج المنظومة الديمقراطية التي صادق عليها هو وباقي الشركاء. في حين أن عبارته التالية التي تؤكد بـ"ضرورة التزام الأطراف كافة بالآليات القانونية والسلمية في الاعتراض والتفاوض" هي الحد الفاصل ولعلها تختزل المبادرة برمتها!
إلا أن إطلاق صفة المبادرة على ما طرحه السيد عمار الحكيم تحتاج إلى وقفة وتبصر! هل هي مبادرة حقًا أم جبر خواطر على حساب الشرعية الديمقراطية، ولماذا نحتاج إلى مبادرات لضم الفائزين والخاسرين ما دامت ثمّة أسس دستورية وقانونية تحدد النصاب؟ وماذا يعني، وهنا تكمن المصيبة بـ"إلغاء قانون الانتخابات الحالي، إلغاء مفوضية الانتخابات، إلغاء الأجهزة الإلكترونية والتعامل بالفرز اليدوي، انتخابات مبكرة بعد سنتين، اختيار رئيس وزراء توافقي، الحفاظ على الحشد الشعبي وعدم المساس به أو بقانونه، تشكيل مجلس استشاري سياسي يرسم القرار السياسي"؟
يمكننا أن نفترض أن أسس الديمقراطية لم تعد وسيلة لتهدئة نفوس الكتل السياسية، وإنما مزيد "من المبادرات" وجبر الخواطر، وترضية "الزعلانين"، للحفاظ على السلم الأهلي!
حتى فارق الأصوات لم يعد حدًا فاصلًا للأغلبية السياسية، فالخاسرون لم يدخروا جهدًا بكفاحهم المستمر لرفض النتائج، بل لا يمكنهم تصور الديمقراطية كتداول سلمي للسلطة وسياج واقٍ للاستبداد، أنهم يتصورنها كناطق رسمي باسم الطائفة، ولا يجوز لها أن تنحرف عن هذه البوصلة، و"مبادرة" السيد عمار الحكيم أنموذجًا.
بعيدًا عن هذه "المبادرة" العجيبة الغريبة، إذا استطاعت الكتلة الفائزة بأغلبية الأصوات من فرض وجودها كقوة مهيمنة في البرلمان، فهي بالتأكيد خطوة ستمثّل منعطفًا مهمًا في العملية السياسية. لكنها تمثّل نصف الحكاية، فالخطوة الأهم هي وجود هموم حقيقية ببناء المؤسسات، بعبارة أوضح: أن يكون بناء الدولة هو الخطوة الجوهرية لكل هذا الصراع. وإلا ستغدو العملية برمتها إلى صراع على المكاسب الفئوية، وربما ستظهر ردود أفعال مماثلة في الدورة القادمة من قبل الصدريين لو تعرّضوا لخسارة مماثلة. والمواطن العراقي بانتظار نموذج مغاير ليصدق كل الوعود والشعارات.
ولا أظن القضية، أعني بناء الدولة، بهذه السهولة على الإطلاق ما لم تستعن الحكومة القادمة بالخبرات العالمية لإدارة الدولة العراقية لاكتساب الخبرات واختزال الزمن. فنحن نعلم جيدًا حجم الفوضى الإدارية العارمة نظرًا لافتقار الدولة العراقية لجهاز إداري محترف. فالناجون من خراب الدولة العراقية هربوا إلى الخارج ليستأنفوا عملهم هناك. كما لو أن المعادلة كالتالي: العراق يدرّب ويعلّم، ثم ينقضّ الانقلابيون على خصومهم، ويُعدم من يعدم ويُختَطَف من يُختَطَف بحجج التآمر، والناجون من هذه الكوارث تستقبلهم الدول الأخرى. وتبقى الدولة الجديدة خالية من جهاز إداري محترف ولا يسد الفجوات سوى الفاسدين.
عمومًا، يخبرنا التاريخ أن الحضارات الكبرى، كالصين، ومصر، وبابل، لم يُكتب لها ذلك الامتداد التاريخي لولا جهازها الإداري المحترف. ومن جهة أخرى يخبرنا التاريخ أيضًا، أنه ما من حضارة أو إمبراطورية أو دولة تهاوت واندرست معالمها إلا بدمار وتحلل جهازها الإداري. وما أن يعم الفساد وتتفشى الرشا وتتسع دائرة المحسوبية سيتهاوى البنيان مهما كانت قوة الحرس القديم.
ولو كان ثمة تبصر بهذه الحقائق التاريخية لما احتجنا مبادرات غريبة همهما الأول والأخير هو الترضيات والانقلاب على الشرعية الديمقراطية. بل يغدو همها كيف نبني الأجهزة الإدارية لإظهار معالم الدولة الحديثة، إلا أن الهم الحالي هو توزيع الحصص بين الخاسرين والفائزين، وهذا مبلغ هم النخب السياسية.
الكثير من الكتل السياسية اللا ديمقراطية تصادق على ما طرحه الحكيم، ليس فقط لأنهم خاسرون وهذا أحد الأسباب طبعًا بل لأنهم يكرهون الديمقراطية
إن المؤسسات الدولية راكمت على مر القرون خبرات هائلة، وثروة العراق الغزيرة يمكنها استجلاب ما طاب لها من هذه الخبرات. لكن الاشتراط الأساسي في هذا الكلام (أو الحلم!) هو وجود إرادة حقيقية للتغيير والبناء، فهل سيفهم القائمون على الامر هذه البداهات؟ أظن أن "مبادرة" السيد عمار الحكيم لا تصب في هذا الاتجاه، وأظن كذلك أن الكثير من الكتل السياسية، اللا ديمقراطية، تصادق على ما طرحه الحكيم، ليس فقط لأنهم خاسرون، وهذا أحد الأسباب طبعًا، بل لأنهم يكرهون الديمقراطية، فهذه الأخيرة تعني ما تعنيه: جبر الخواطر وليس إيمانًا حقيقيًا بالديمقراطية على الإطلاق.
اقرأ/ي أيضًا:
شعار انتخابي ذوبته النتائج.. "قوى الدولة" تنطق بخطاب الفصائل المسلحة
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات