رأي

تعويذة السياسي المقدَسّة

30 ديسمبر 2020
000_1QH8P8.jpg
هل هناك من لم يتأثر بالتلاوات الطقسية للسياسيين وسحرهم المذهل؟ (فيسبوك)
رعد أطياف
رعد أطياف كاتب من العراق

دول الفجار مذلّة الأبرار. علي بن أبي طالب

تتلاقح الحضارات فيما بينها، وبمقتضى التدافع تنتج لنا خلاصة وافية عن أفضل ما في التراث البشري. ومعلوم أن هذا التراث يبقى متوارثًا بين الأجيال، وينعكس لاحقًا على النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فـ"التعويذة" السحرية هي هنا وبالذات: تترابط الأجيال فيما بينها، وتوصّل لنا، عن طريق النخب، نتاج السابقين، ثم يضيف اللاحقون ما أفرزته لهم التجربة الراهنة. غير أن التعويذة العراقية لها خصوصياتها وسماتها المختلفة، ويبدو أنها نزلت من مكان خارج أفق التجربة الحضارية! لأنه لو بحثت عن أشباه ونظائر لها في حركة التاريخ لما عثرت على نسخة واحدة حتى لو كانت نسخة مشوهة. فالسياسي العراقي، وفي هذا الحدث بالذات، يسجّل قصب السبق وبراءة اختراع عن انفراده بهذه التعويذة المقدسة!

ما الذي يجعل السياسي العراقي في دائرة واسعة من العيش الرغيد، وقد فتحت له الدنيا أحضانها؟ لماذا يسجّل أكبر دخل شهري بين سياسيي العالم بشكل عام؟ كيف لا وهو السياسي الذي نٌهبت، على دراية منه، نصف ترليون دولار، ولا زال بكامل قواه العقلية؟ أليس هو السياسي بعيّنه الذي يكابد شعبه "حمّارة القيض" و"صبّارة القر"، مثلما يصفها علي بن أبي طالب، دون أن يرمش لهذا السياسي العراقي جفن لهذه المعاناة التي تجاوزتها المجتمعات البشرية التي تحترم نفسها؟ بالمناسبة، لقد كان يبكي الكثير من هؤلاء السياسيين ويتغنون بزهد علي بن أبي طالب، وقد يمّر أحدهم على هذه المقالة مرور الكرام، وهو يتناول الحلوى في أحد الدول الأوروبية بعد نهاية خدمة شاقّة في البرلمان العراقي الأسطوري. وربما يستلقي على ظهره من الضحك وبيده تعويذته المقدسة.

في الأحياء السكنية الفقيرة، وما أكثرها بعد التغيير! نعثر على جاذبية يندر مثيلها لهذه التعويذة بين أوساط المعدمين، وهي سريعة التأثير بإصابة الهدف؛ ما أن يتلوها أحدهم حتى يتحول الجميع إلى نسخة طبق الأصل تحاكي أمنيات السياسي العراقي "الساحر" والمحظوظ للغاية! إنها تشبه تأثير الزومبي؛ لمجّرد أن تتعرض لعضّة من أحد الزومبيات يمكنك أن تنشر العدوى لأكثر من واحد. غير أن الزومبي شيء وهذه التعويذة  شيء آخر؛ أن الفارق بينهما، هو أنه لم يعترف الكثير من المعدمين بخطورتها ولا زالت الشكل التعبيري الأرقى لنظرة الفرد العراقي حول نفسه، حتى أننا سنُصاب بالدهشة لو صادفنا أحدهم وهو خالٍ من سحر التعويذة.

 لو صادفنا عراقيًا يتكلم بلغة مختلفة نستنتج فورًا أنه خارج تأثير القوة السحرية، بمعنى أنه لم يتأثر بالتلاوات الطقسية للسياسيين وسحرهم المذهل، إذ وصلت جاذبية السياسيين حدًا أنهم لا زالوا يتكلمون عن الآثار السلبية للفساد! حتى أن الكثير من العراقيين؛ في الحانات، والمقاهي، في سيارات الأجرة، وشارع المتنبي، في المستشفيات والحمامات العامة، في بيوتهم ومناسباتهم السعيدة والتعيسة (على الرغم من تشابه مناسبات الأفراح والأحزان!) هؤلاء كلهم يتكلمون عن الفساد والمفسدين والسرقات التي تحدث في وضح النار، لكن لا زالت قوّة التعويذة أكثر من أي وقت مضى. لقد توحّد الخيال بالحقيقة، والواقع بالحلم، وبلغ مستويات لم يعد فيها الكثير من العراقيين يمتلكون القدرة الذهنية النبهة على الفصل بين واقعهم وبين قوة العبارة السحرية التي تنطوي عليها تلك التعويذة سيئة الصيت. ومن الصعب للغاية تمييز الكلام النابع من تمثّلاث الشياطين ونفثهم المستمر في صدور العراقيين لتلقينهم العبارة، والكلام الذي يصدر من الخبرة والتجربة النابعة من المعيش اليومي بكل صدق ووضوح. مرّة سمعت عراقيًا يصرخ بحالة هستيرية وهو يلطم وجهه بقوة، لقد صرخ قائلاً "أحنا العراقيين مو خوش أوادم ونستحق الحرمان!". حين هدأت ثورته النفسية وقذف معاناته المؤلمة كما يقذف البركان حممه المستعرة، تقرّبت إليه وقلت: لماذا يا أخي تشتم الشعب العراقي بهذه الطريقة؟ أجابني في حينها وعيناه كما لو أنهما تحدقان في الفراغ: صدقني يا أخي لم أعلم ماذا قلت! منذ عقود يتساءل الكثير من العراقيين عن سرهذه التعويذة الملعونة (والمقدسة عند السياسي العراقي)، ويا ترى من ذلك سعيد الحظ الذي قرأ طلاسمها السحرية. يقال إن رجلًا عراقيًا كريم الأصل عثر على عرّافة واسعة الحيلة ذات يوم، فسألها عن سر هذه التعويذة. اقتربت العرّافة وقالت، أسمع هذه العبارة الملفوفة في التعويذة واحفظها عن ظهر قلب: "كل عراقي لا يستحق العيش الكريم ومحكوم عليه بالإهانة والموت مالم يثبت العكس، ويبقى السبب مجهولًا إلى إشعار آخر".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أسئلة عراقية في الزمن الصعب

تعددية إجبارية.. فراغ ديمقراطي ينتظر الرجل الواحد

الكلمات المفتاحية

الحروب.jpg

2025.. عام الحرب والسلام

الحروب هي في الأساس توترات مؤجلة انفجرت وتصاعدت بسرعة


الدراما في العراق.jpg

المسلسلات في "عام الإنجازات"!

هناك أسئلة عديدة حول المنحة الحكومية للدراما في العراق خلال 2024


احتفالات في غزة.jpg

نعم.. انتصرت غزة

الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة


مسعود بارزاني السوداني.jpeg

خلافات بغداد وأربيل.. تنافس يوضح المشهد السياسي لانتخابات 2025

لا يمكن أن تأتي إعادة تشكيل القوة في العراق إلا نتيجة لحدث عراقي أو إقليمي كبير من شأنه أن يعيد ضبط اللعبة

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert