الفقراء في ضيافة الفيروس
23 أبريل 2020
أخبرني ذات يوم أحد الحكماء أن العالم عبارة عن "سحرٍ أسود"؛ لأنّه عالم يضج بالغرائبيّ والصادم والمدهش. ولم يبخل عليَ بنصيحة أخرى مفادها: كل ظاهرة في هذا العالم مهما كانت مرارتها فهي كالقطعة النقدية، يحمل وجهها الآخر جانبًا شديد السخرية. وأتذكّر أحدى حكم البوذا يقول فيها، لو ترى ما رأيت لوقعت على قفاك وعيناك تدمع من شدّة الضحك! هل ثمّة مشهد من كون الفقراء والمعدمين يرقصون ويتهكّمون ويسخرون من الموت في هذا الوباء القاتل! فبينما يسقط الآلاف من الضحايا، المأسوف عليهم، في الدول المتقدمة، يهرول الفقراء إلى أماكن عملهم ولا يوجد في ذاكرتهم سوى إيمانياتهم الوجدانية ونكاتهم الغزيرة عن الموت. ويظهر أن المعادلة في ضمير الفقراء كالآتي: لاشيء تحت اليد لكي نخسره!
في أزمة فيروس كورونا ستجد سوّاق التكتك والسبّاكين وعمال البناء والعتّالين يهرولون بنشاط لا يختلف عن باقي الأيام للعثور لقمة الخبز
صحيح أن الموت لحظة مرعبة لكل أصناف البشر ولا يحترم التراتبيات الطبقية. لكن حتى هذه الهيبة التي يضفيها الموت على نفسه لا تلقي الاهتمام من الفقراء. في الصباح الباكر ستجد سوّاق التكتك والسبّاكين وعمال البناء والعتّالين يهرولون بنشاط لا يختلف عن باقي الأيام للعثور لقمة الخبز. لكن لماذا لا يخاف الفقراء من الموت بشكل عام؟ لماذا يبدو الموت في آخر سلّم أولوياتهم؟! إذا كان الموت يسلب منّا "بهجة" الوجود، فالفقراء تبرعّوا بهذه البهجة مسبقًا، أو بتعبير أدق، لقد تبرّعت بهم البهجة لفم الموت! إنّهم يتدرعون بـ"مناعة القطيع" كما يطلق عليها المختصون.
اقرأ/ي أيضًا: تحذيرات من تشديد إجراءات حظر التجول الجزئي في العراق
فإذا كانت الحياة هي شعور بالوجود، فيا ترى ما طبيعة الشعور الذي وهبهم أيّاه ذلك الوجود؟ لقد وهبهم نسخة مشوّهة وكانت هذه النسخة هي التعبير الأكثر جلاءً لمعنى العدم، إن كان للعدم معنى! لقد كانت لهم مع الوجود رحلة مضنية اختتموها بأفظع القصص التي تروي انتهاك الكرامة البشرية. والقضية تبدو هنا كما لو أنها أحجية؛ ذلك أن شعور الموت ظل يطارد ذاكرة هؤلاء المغضوب عليهم حتى باتت ثنائية الموت والحياة حقيقة واحدة! ولكي لا أقع في المبالغة والحذلقة: أنا لا أدعي فهم الفقراء لهذه المعادلة بصياغات وأطر عقلانية ومفاهيم دقيقة، بل شكّلت ممارستهم الحياتية القاسية ذاكرة ضخمة من الألم والمعاناة، كانت ذاكرة الموت حاضرة لديهم أينما يولّوا وجوهم. لقد تم تلقينهم منذ الصغر: أنتم دمى يحرك خيوطها حرّاس الموت والحياة. كانوا موتى تم تلقينهم على أنّهم أحياء.
كان لحراس الموت والحياة من "الآباء" حصة من التواطؤ المسبق مع الموت؛ إذ كان الفقراء لقمة سائغة لأبسط سياسات الاستمطاء، وكانوا رهن الإشارة للتبرع بحياتهم المؤجلة متى ما شاءت الرتب العليا بذلك. كل هذا يجعلهم يتعاملون مع الوباء على طريقة الموتى المؤجلين؛ ينتظرون أسمائهم المدونة في هذا السجل الذي وقعوا عليه بأريحية كاملة، ما إن يظهر أحد الأسماء حتّى تسمع الفقير يصرخ: نعم ها أنذا بشحمي ولحمي! هذا أنا من كنت موعودًا بهذا القدّاس الوحيد الذي يلاءم شعوري البشري!
بالعودة إلى السحر الأسود والسخرية من الكثير من المواقف، فقد أثبت الفقراء هذا السحر، ولعلهم أضافوا إمكانيات جديدة للنظر إلى الحياة. الأمر مضحك ومثير وصادم بالفعل: لماذا لم يمت الفقراء بأعداد كبيرة أسوة بباقي البشر الذين يتساقطون بالمئات في ظل منظومات صحية متطورة؟ الجميع تواطأ ضد الفقراء، الوجود تواطأ ضدهم حينما سلب منهم تلك البهجة المحببة للتعلق بالحياة، والطبقة السياسية تواطأت ضدهم يوم وضعتهم في خانة قطع الغيار المُستعملة وغير الصالحة للاستخدام، وهم تواطؤا ضد أنفسهم بهذا الإيثار الصوفي، فانطفأت لديهم كل مؤشرات الرغبة في البقاء. الوحيد الذي امتدت سفرته لهم بكرم ملحوظ هو الفيروس! وحده من كان كريمًا معهم أو ربما لم يجد المنفذ المناسب لاختراق مناعتهم التي خاضت معهم سابقًا منعطفات شديدة الخطورة. يبدو أنهم عصيّون على الموت، لكن، ويا لسخرية الأقدار، لو أرادوا الموت، فسيهبونه بلحظة دون أن يرمش لهم جفن!
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات