ثقافة وفنون

الصلاةُ في قلب القاموس

4 يوليو 2020
383-علي_الحساني3.jpg
(علي الحساني/ العراق)
أحمد عبد الحسين
أحمد عبد الحسين شاعر وصحافي من العراق

في المقهى مع أصدقاء شعراء، وكلّهم أصغر سنًا مني، كنّا نتحدث عن مجلة "براءات". وصل بنا الحديث إلى افتتاحيتها التي كتبتُها تحت تأثير فكرةٍ تضغط عليّ منذ سنوات فحواها أنّ الصفة الأبرز للشعر تتمثل في كونه غير نافع. وعدم نفعه هو عين براءته، ومن تلكم البراءة ومن عدم النفع هذا استقينا عنوان المجلّة.

الفكرة هايدغرية ـ هولدرينية كما تعلمون. هايدغر تحدّث مطولًا عن أنّ أعظم الأشياء هي ما لا نفع فيها ولا قصد، وأعظم الأقوال هي تلك التي لا يمكن صرفها ولا استثمارها في منفعة. الأقوال البريئة مجّدها هايدغر الذي كان ناظرًا على الدوام لمقولة شاعره الأثير "هوليدرين" "الشعر أكثر الأفعال حظًا من البراءة" وهي بالمناسبة شعار مجلتنا "براءات".

في المقهى، صحبة أصدقاء شعراء شبّان كنت أجادل عن "فكرتي" ـ التي هي في الحقيقة فكرة هيدغر وهولدرين التي جادلتُ عنها في مقالات سبقت افتتاحية المجلة، ووجدتُ أني تحت وطأة معضلتين تلجمان لساني:

الأولى هي أني أسيرُ تناقضٍ ظاهرٍ حين أمجّد ما لا نفع فيه في الوقت الذي استثمر فكرة اللانفع الهيدغرية لأنتفع منها في مداولات كتابية وشفاهية. كأنما أجعل مما لا نفع فيه نافعًا لي ولـ"فكرتي".

والثانية هي أنّي ليس في يدي دلائل كثيرة على وجود نصوصٍ شعريّة أو نثرية مشرقةٍ لا يمكن صرفها على هيئة مسكوكات نافعة.

المقهى "كهوة وكتاب" في الكرادة حيث كنّا نتحدث أنا وأصدقائي الشبّان، يحتلّ الطابق الأول في البناية بإزاء مسجدٍ يعتلية ويدور حوله إفريز بلون شذريّ، لون السماء الكابي، بل هو السماء لكنْ حين تكون حالكة، لون مصمم ليذكرنا بشكلٍ مضاعف بالسماء.

على الإفريز الذي يدور حول المسجد مكتوبة آية النور:

"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".

قلت لأصدقائي: ما نفع هذه الآية؟ كيف يمكن أن ننتفع منها؟ لا هي آية حُكمية فقهية ولا هي وعظية إرشادية، هي ليست أمثولة ولا قصة تاريخية، لا تقدّم معلومة ولا تحرّض على فعل، لا تأمر بشيء ولا تنهى عن شيء ولا تدعو لشيء. كلمات خالية من كلّ معنى خارجها. وبسببٍ من عدم نفعها هذا أصبحت مشرقة نورانية ومترعة بهذا الإيحاء وذلك الاكتناز.

هذا كلام لا يريد نفعًا ولا يتطلب فهمًا، ولهذا فإنّ فيه مسًّا من القداسة. هذا كلام لم تلكه أضراسُ الأذهان والأفهام ولم يُطحنْ برحى الدهاء، كلام لم يلوّثه العقل بألاعيبه، يطلع هكذا كصلاةٍ مرفوعة إلى إله كلّه غيب ومجهولية. وتذكرتُ كم مرّت عليّ أوقات في حياتي كدتُ لا أميّز فيها بين شعر ودعاء، كلّ ما يتوجّه به إنسان إلى الغيب فهو شعرٌ عندي مهما كانت صياغته.

هذه كانت على الدوام نسختي الخاصة من الشعر، وهي نسخة مرهقة لأنها لم تمنحني مصاديق كثيرة في ما أقرأ، وهي نسخة شاقّة لأنها أدخلتني إلى عوالم لم تطأها كثيرًا أحذية الشعراء، عوالم طالما سخر منها الشعراء وضحكوا على مَنْ فيها.

في اللغة، في صميم اللغة توقٌ كبير إلى أن تصطفّ الكلمات لصياغة دعاء. الصلاة في صلب القاموس، والقاموس في يد شاعر يريد أن يكتب شيئًا لا يريد منه أيّ شيء.

في المقهى، مع أصدقاء شعراء، قلت شيئًا كهذا ولم يضحك عليّ أحد.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رسالة في انطباق الشفتين

رسائل من شاعرٍ إلى قاتل

الكلمات المفتاحية

مدرس.jpg

صور: أستاذ عراقي يتطوع لتعليم المسمارية بطريقة مبتكرة

ينظم مدرس مبادرة سنوية لتعليم الكتابة المسمارية عبر مشروع يستهدف طلاب المرحلة المتوسطة


الهيئة العامة للاثار والتراث.jpg

البعثة التنقيبية العراقية الإيطالية تقترح إقامة متحف ثابت في تل محمد

اكتشافات آثارية في تل محمد ببغداد


جروانة.jpg

لا سياج ولا إجراءات تأمين.. "تويوتا العراق" تبرر صعود "لكزس" فوق السد الأثري

بررت شركة "تويوتا العراق" تصوير إعلان تجاري على متن سد جروانة الأثري في محافظة نينوى والذي أثار استياءً كبيرًا وتفاعلاً غاضبًا


المخرج العراقي محمد شكري جميل.jpg

أخرج "المسألة الكبرى" وشارك في أفلام عالمية.. رحيل المخرج العراقي محمد شكري جميل

النقابة والوزارة تنعيان المخرج السينمائي العراقي محمد شكري جميل عن عمر 88 عامًا

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert