السلاح أم "تشرين": الانتخابات المبكرة وفرض شروطها
23 نوفمبر 2020
دائمًا ما أقول وبيني وبين الأصدقاء: أنهم يخافون تشرين. فعلًا هم يرتعبون من فكرتها المنادية بإرساء الهوية الوطنية وتذويب الهويات الفرعية بداخل هذه الهوية الجامعة لكل أفراد المجتمع. يشعرون بالعجز عندما يسمعون أن شبابًا قاموا وقالوا: "نريد وطن". هذا الشعار الجديد في قاموس الشعارات العراقية الطويل، ربّما هو الشعار الأصدق في تاريخ العراق السياسي منذ نشأة الدولة العراقية. "نريد وطن" بمعنى أن تكون السيادة على رأس أولويات من يريد حكم هذا البلد، بمعنى أن لا يتسلط علينا وعلى رقابنا من يعمل لصالح الخارج لا لصالح الأرض التي تعطيه كل شيء، وهو يعطيها الخيانة والدم والدمار والجوع. وطنٌ يحكمه القانون لا السلاح المصوّب في قلب القانون، وطنٌ يحترم جميع التوجهات والأديان، ولا ينال منها ما دامت لم تؤذ أحدًا، وطنٌ يحفظ أبنائه ولا يقدمهم للموت مثل ما تُقدم الشاة للذبح، وطنٌ يحفظ للضعفاء كرامتهم ويجعلهم غير معرضين للإهانة من قبل أمراء المال والسلاح في كل لحظة.
بسبب شيطنة تشرين صارت البديهيات مثل إيجاد الماء الصالح للشرب والكهرباء والشارع المُعبد والعمل المُحترم والتعليم الجيّد مؤامرة وفتنة تستهدف الدين والمذهب
أمام هذا الشعار والشعارات المُنادية لبناء الدولة التي رُفعت في تشرين، تم توظيف ملايين الدولارات وعشرات "البيجات" المموّلة والقنوات والجهات المُندسة، وحتى في بعض الأحيان تمت الاستعانة بخبرات دول جارة بقمع الاحتجاج مثل إيران، و"القنّاصات" و"الكواتم" والقنابل ومضاد الطائرات.. الخ، وكل الأمور التي حاولت قتل تشرين ماديًا ومعنويًا. تشرين ذات السنة الواحدة، ولم تقدر أحزاب السبعة عشر عامًا على فعلٍ كهذا. حتى وصل الحال بالبعض من زعماء هذه الأحزاب أن يضربوا على وتر المخيال الديني والعقائدي لدى الجماهير المتدينة، ويقولون لهم: إن شعار "نريد وطن" معناه أن يُذاع الفساد في كل زقاقٍ ودار، معناه أن التعدي على الذات الإلهية والاختلاط المحرم -حسب قولهم- والعنف التهجير والقتل والكذب والاختطاف والاغتيال، "نريد وطن" معناه أن هؤلاء الشباب "أولاد السفارات والجوكرية" خارجين ضد الله والدين لا لأجل استرجاع الوطن المسروق. ومن زاوية أخرى نفسها هذه الجهات السياسية وعن لسان قادتها تقول إنها مركز صناعة القرار السياسي، القرار الذي أدى بالبلد إلى حفرة الدم والنار والجوع هذه. بالحقيقة أن الجميع يعرف من كان عدوًا لتشرين أو مساندًا لها -في عقله الباطن لا العقل الذي يوهمونه من يدّعون تمثيل صوت الله في الأرض- أن هؤلاء الشباب خرجوا لإيجاد حياة تشبه حيوات البشر في سائر أنحاء المعمورة. وصل الأمر بسبب شيطنة تشرين إلى أن البديهيات مثل إيجاد الماء الصالح للشرب والكهرباء والشارع المُعبد والعمل المُحترم والتعليم الجيّد لم تعد بديهيات، بل تم الترويج لها على أنها مؤامرة وفتنة تستهدف الله والمذهب. وتناسوا الشباب الذين رفعوا راية الحسين الشهيد واصطادهم القناص كما يصطاد الضبع الفريسة. وبالحقيقة لا أعرف ما الذي يربط المطالبة بتوفير رصيف مشيّد مثل البشر بالمذهب والدين!
اقرأ/ي أيضًا: الجمهور السعيد
ومن مضحكات الدهر الذي أتى بطلاب المال والنفوذ هؤلاء، أنهم حتى في كيفية صناعة العدو أغبياء، فمثلًا في الثورة السورية استخدم النظام ذريعة وجود مجاميع مسلحة داخل المحتجين السوريين ومن ثم قمعهم، كذلك في مصر تم استخدام ذريعة وجود "الإخوان المسلمين" في الاحتجاجات المصرية وتم قمعهم، وليبيا المجاميع المسلحة إلى آخره من الحجج والذرائع في قمع الشعوب. لكن "أغبيائنا" ذريعتهم كانت اسم فيلم سينمائي، ليس له وجود على أرض الواقع من الأساس، وجزءٌ منهم قالوا: "جوكرية" منذ بدء احتجاجات 25 تشرين الأول/أكتوبر وكان الجزء الآخر يدافع عن الاحتجاج ويقف في صفها، ولكن اقتضت مصالحه الشخصية إعلاء هويته الفرعية على هوية الوطن، ونسيان التضحيات والدماء، ليقولوا هم أيضًا: "جوكرية، عملاء، أولاد السفارات". ويا للغرابة زاد هذا الجزء على الجزء الأول من التهم على أبناء تشرين بعشرات المرات.
في الحقيقة، إن أمراء نقابات السرقة هؤلاء -الأحزاب- لا يكترثون لا لدين ولا لمذهب ولا لوضع بلدٍ احترق أم أكتوى أو يذهب للجحيم. جُل اهتمامهم مُنصب على كيفية الاستحواذ على مقاعد برلمانية أكثر ودرجة وظيفية أكبر وجعل دائرة السيطرة على الوزارات المُعطاة لهم عن طريق نظام المحاصصة أوسع. ولو تتبعنا مسار أحد الأحزاب المهيمنة على الطبقة السياسية حاليًا منذ انطلاقه وإلى الآن، سنجد أن في كل انتخابات رأس ماله السياسي هو صفر حرفيًا، لكن يتعكز على صناعة العدو الوهمي أو استعداء من معه في الطبقة السياسية بحجّة الإصلاح على سبيل المثال، يجعل نفسه في خانة الصالحين المصلحين والآخرين في خانة الفاسدين المارقين، وفي الحقيقة هم يعومون في مركبٍ واحد. ويقول تعالوا لكي نُنقذ البلد من الثلّة الفاسدة هذه عن طريق حصد مقاعد أكثر، دعونا نكتسح الانتخابات النيابية ليكون القرار رهن أيدينا ولا نُجبر بأن يُفرض علينا شيء. يحصد هذا الحزب المقاعد الأكثر في الانتخابات ومن بعدها يتحالف مع أقرانه من الأحزاب الفاسدة ويُقسم المغانم والمناصب ويتوافقون على رئيس وزراء قاتل مثل عبد المهدي، ولا ناخبٌ سَمع ولا إصلاحٌ رأى.
الآن هم ضد الإصلاح الذي تنادي به تشرين، لأنهم وببساطة ليسوا قادته ولا يسير على مزاجهم السياسي، فذهبوا لاستعداء تشرين وأبنائها من طلاب ومهندسين وأطباء وكسبة، وإلى آخره من الفئات. تحت ذريعة أن هؤلاء يُريدون نشر الفواحش والفساد وخراب الدين والعباد، فلنتلاحم مرةً أخرى ونكتسح الانتخابات القادمة وهكذا.. إن الأمر هنا واضح ولا يحتاج لتحليلات، لا يوجد مُنجز على أرض الواقع لهذه الطُغم السياسية يستقطبون به جمهورهم للانتخابات مرّة أخرى، كما كل حال في أي دورة انتخابية، فيلجأون لصناعة العدو حتى تشعر الجماعة بالخطر، وتلتف حول من يمثلها لتسير مغمضة العينين، ومنزوعة العقل لتنتخب ما تؤمر به بحجّة الخطر القادم من تشرين.
عند انتفاء العدو سينتفي وجود الأحزاب والجماعات هذه، لأنها لا تستطيع إيهام جمهورها بمُنجز غير موجود من الأساس باستثناء الجمهور العقائدي طبعًا.
لكن المفارقة هذه المرّة أن العدو شباب الجامعات والمعاهد، خريجو الطب والهندسة والاقتصاد والصيدلة والعلوم، الشباب الذين رمت ملفات تعيينهم الحكومة التي تمثلها هذه الأحزاب السياسية في سلات القمامة.
ماذا نستنتج من الحديث أعلاه؟ إن الأحزاب السياسية والتيارات المتواجدة في السلطة غير قادرة على صناعة نموذج مقنع تمامًا ينتشل المواطن من بحرِ الدم وقفص الفقر المُطبق على أنفاسه. فإن لم يتم وضع خريطة لرسوخ مفهوم دولة المؤسسات وـ الدولة الأمة ـ التي تحوي الجميع وتستوعبهم على أساس المواطنة والعدالة الاجتماعية، وقتل العصبيات الحاملة للسلاح.
برأيي، لا فائدة من الحديث عن دخول الانتخابات المُبكرة، وتنظيم أحزاب سياسية تتبنى رؤى الحركات الاحتجاجية في الأعوام السابقة، لا انتفاضة تشرين ولا احتجاج البصرة عام ٢٠١٨ ولا غيره من الاحتجاجات. لأنك وببساطة، إن كنت تنوي الدخول للسلطة وبشكل مباشر حتى تتسنّم بعض مقاليد الأمور، فأنت لا تملك خيارًا سوى أن تتحالف مع هؤلاء تحت وطأة السلاح أو بغيره من وسائل الضغط غير الخاضعة لشروط التحالفات الوطنية التي تنوي التقدّم خطوة لبناء الدولة. ويعود تعليل التحالف مع أحزاب السلطة لاستحالة حصولك على مقاعد كافية تحت قبّة البرلمان تُغنيك عن التحالفات مع أحزاب السلاح هذه. أما إذا كانت نية الدخول في الانتخابات هي تكوين جبهة معارضة برلمانية، فهنا سيأتي حديثٌ آخر لاحقًا.
عند انتفاء العدو سينتفي وجود الأحزاب والجماعات هذه، لأنها لا تستطيع إيهام جمهورها بمُنجز غير موجود من الأساس باستثناء الجمهور العقائدي طبعًا
إن الذي بات أمرًا واقعًا وملموسًا الآن أن العدو ليس الأمريكان، ولا المالكي ولا "داعش"، بل ولا حتى الميليشيات السائبة وأذرعها السياسية، شرائح الشعب المحتجة على هذه المأساة هو العدو هذه المرّة.
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات