رأي

الجمهور السعيد

21 نوفمبر 2020
GettyImages-1228255501_0.jpg
خطاب التبرير في العراق هو آلية دفاعية تغطي على الفشل السابق واللاحق (Getty)
رعد أطياف
رعد أطياف كاتب من العراق

كثيرًا ما يركّز الفكر الشرقي على مفهوم المعاناة، ذلك أن مفهوم المعاناة يمثل السؤال المركزي في قلب الفلسفة الشرقية. ومن جملة الأمثال ذات المغزى العميق، مثال ما يسمّى "شعرة المعاناة"؛ أنت لا تتحسس الشعرة حينما تلتصق على راحة يدك، في حين نفس الشعرة لو دخلت في عينك فستوّلد ألمًا شديدًا لا يطاق في كثير من الأحيان. عند الإدمان على شيء ما، يغدو بمرور الزمن عادة متأصلة. بتعبير أدق: يغدو عنصرًا مكوّنًا لبنية الذات؛ إنه هويتنا التي لا نتنازل عنها. ذلك أن الهوية هي شعور بالوجود، من فينا يتخلّى عن وجوده؟! ينطبق هذا المثال على وضعنا العراقي الراهن، ويتخلل كل تفاصيل حياتنا السياسية والاجتماعية والنفسية. وأصبح بمرور الوقت الموضوع الذي يحظى بجمهور غفير ومكافح وشديد البأس! فسؤال المعاناة هو السؤال المُغَيَّب كليًا عن مطالب الناخب العراقي، لأنه يتعامل مع هذه المعاناة كما لو أنها شعرة في راحة يده.

من المرجّح أن يتحول الخطاب الديني والمحافظة على قيم المجتمع في العراق أحد أهم مرتكزات البرامج الانتخابية!

ولهذا الإدمان والاعتياد منافع جمّة للسلطة الحاكمة؛ إذ لا تحتاج إلى ماكنة إعلامية متطورة لتقنع ناخبيها ببرامجها السياسية، ولا تخشى فتور الهمّة والحماس، ولا تتخوف من تراجع شعبيتها. يكفي أن تغازل الناس في عقائدها، فستكتسح المشهد السياسي فورًا وبلا جهد مضاعف. ربما سنسمع في الأيام القادمة برامج انتخابية تتخلى عن "وعودها" السابقة وتبحث عن مشروعية جديدة، سيكون شكلها التعبيري الثابت، هو التمسك بالدين والمحافظة على قيم المجتمع.  ومن المرجّح أن يتحول الخطاب الديني أحد أهم مرتكزات البرامج الانتخابية! وهو تكتيك ستلجأ له التنظيمات الجماهيرية لضمان تلاحمها وتماسكها.

اقرأ/ي أيضًا: كوابيس عراقية

وفي غضون ذلك ثمّة سعادة تظهر على ملامح هذا الجمهور القانع، سعادة حتى لو كان محتواها عدمًا مطلقًا، يكفي أنها تجدد العهد بمعاناتها التي لا تنتهي! كيف يمكن لمعاناة أن تأخذ مكان السعادة؟! في الحقيقة لا توجد مثل هذه المعادلة على الإطلاق، وإنما كل ما في الأمر، أن الجمهور السياسي اعتاد على شعرة المعاناة كما قلنا، فهي لم تدخل في عينينه بعد، بل ربما يضحي بأحدهما لو تطلّب الأمر! يكفي أن التكتيكات الجديدة والخطاب التحريضي الذي تحترفه أحزاب السلطة ستٌشعِر هذا الجمهور بوجوده؛ وجوده القائم على إدمان المعاناة. أما الحياة الحرّة الكريمة لا وجود لها في قاموس الجمهور السعيد.

في مثل هذه الثقافة المضطربة ينشأ خطاب مشوّه وغريب لا يرتبط بالواقع وهمومه، بقدر ما يرتبط بتأصيل العادات الراسخة وإضفاء مشروعية مقدسة عليها. ولكي تبعد الناس من الواقع ما عليك سوى تمرينهم تمرينًا جيدًا على التبرير والاختلاق. الخطاب السياسي السائد في وضعنا العراقي، هو خطاب التبرير، وهو آلية دفاعية تغطي على الفشل السابق واللاحق! والأطرف من ذلك، إن من يقوم بهذا التبرير هو الجمهور وليس النخب الحاكمة! من يقوم بالتبرير والاختلاق وتصنيع الأعذار وتلميعها هو الجمهور السعيد. إنّها سلطة قوية ومتماسكة ومنَظَمَة، وجمهور زاهد بالحقوق ويقدم أعلى فروض الطاعة والولاء وهو في قمّة الانتشاء.

 واستنادًا على طبيعة تفكير وسلوك الجمهور السعيد،  ستبدي السلطة وجمهورها تضامنًا سياسيًا، وحميميات عائلية غير مسبوقة. وإذا تطلّب الأمر أن تظهر أسوأ ما فيها للحصول على المشروعية السياسية، لأنها مشروعية قائمة، كما قلنا، على التبرير والاختلاق، والكفاح على جعل جمهورها سعيدًا للغاية على طريقتها الوهمية المحببة.

 في الجهة الأخرى تبقى الفئات الناقمة على السلطة تعاني من فقدان الثقة، التخوين، غياب المشروع السياسي، والاتهامات المجانية. النتيجة، دائرة مغلقة وانسداد وعدمية سياسية. باختصار شديد: "معارضة" تعاني من فقر الأدوات وعنف السلطة وإعلامها المضلل. ومن يذكرنا بهذه الحقيقة سيكون هو السبب في كل ما يحدث!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مجتمع اللاتعاطف

الخوف من المستقبل

الكلمات المفتاحية

الحروب.jpg

2025.. عام الحرب والسلام

الحروب هي في الأساس توترات مؤجلة انفجرت وتصاعدت بسرعة


الدراما في العراق.jpg

المسلسلات في "عام الإنجازات"!

هناك أسئلة عديدة حول المنحة الحكومية للدراما في العراق خلال 2024


احتفالات في غزة.jpg

نعم.. انتصرت غزة

الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة


مسعود بارزاني السوداني.jpeg

خلافات بغداد وأربيل.. تنافس يوضح المشهد السياسي لانتخابات 2025

لا يمكن أن تأتي إعادة تشكيل القوة في العراق إلا نتيجة لحدث عراقي أو إقليمي كبير من شأنه أن يعيد ضبط اللعبة

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert