الانتخابات العراقية.. انتفاضة ديمقراطية ناعمة
21 أكتوبر 2021
لو اجتمعت كل الجهود السياسية والشعبية لإقناع التنظيمات الإسلامية من أنها تنظيمات سيئة بكل معنى الكلمة فستعترض هذه التنظيمات وستستخدم العبارة العزيزة على قلوبها "أنها مؤامرة"، ولهذا الخطاب الفوقي والمتغطرس مفاعيل كثيرة وآثار مترتبة، أقلها أنهم يخسرون قواعدهم الشعبية بالتدريج مثلما تخبرنا به الوقائع. والناس في نهاية المطاف لا يمكنها أن تبقى تأكل وتشرب في مطبخ الأيديولوجيات في حين يفترسها الجوع الحقيقي لشروط الحياة الكريمة، ويظهر من سلوك التنظيمات العقائدية أنها ليست معنية بذلك على الإطلاق.
لا زالت أحزاب السلطة في العراق لم تستفق من الهزيمة المدوية التي منيت بها في الانتخابات حتى هذه اللحظة
والمصيبة الكبيرة أن هذه التنظيمات لا علاقة لها بالدين إلا من حيث الإساءة إليه! والممانعة الشديدة لكل خطوة إصلاحية تصب في صالح جماهيرها على الأقل. هل ثمة مشاريع تنموية، أو رؤية واضحة للسياسة الداخلية والخارجية، أو شراكة حقيقية مع باقي الفصائل السياسية، أو تعليم متقدم، أو مؤسسة عسكرية وطنية، أو رؤية اقتصادية واضحة المعالم، أو بناء مؤسسات عصرية؟ كل هذا لا يوجد في قاموس التنظيمات الإسلامية سوى قمع الخصوم والإدمان على تكرار المحفوظات المملة عن نظرية المؤامرة.
اقرأ/ي أيضًا: المقاطعون ومشاركة "تشرين" بالانتخابات
لا زالت الضربة المفاجئة التي مٌنيت بها بعض أحزاب السلطة لم تستفق منها حتى هذه اللحظة، ولا ينبغي تذكيرهم بكل سنوات التخبط والسياسات الفاشلة التي كانوا أحد أبطالها، لأنك ستندرج في عداد الآخر، وهذا الأخير يعني بالدقة ذلك الشخص المتآمر المدفوع بأجنّدة خارجية. كانت هذه التنظيمات تعتقد أن الغضب الشعبي الذي ندد بسياساتها هو غضب خارج السياجات العقائدية لجمهورها الثابت، وكانت تعتقد أنها في مأمن من ذلك كله، فجمهورها يقدم لها أسمى آيات العرفان بالجميل. لكنها فوجئت بهذه الضربة الموجعة والعقوبة التي كانت متوقعة من قبل جمهورها بعد سلسلة طويلة من الخيبات المتوالية، فكانت نهايتها مٌرّة لكنها ليست أكثر مرارة من خيبة الأمل الكبيرة التي مُني بها جمهورها الذي تعرض لطعنة بالظهر عبر تجاهله تمامًا والانشغال بخطابها الفوقي واحتقارها لصوت العقل والمنطق.
القضية التي كانت شبه مُسَلَّمَة وراهنت عليها هذه الفصائل السياسية؛ أنها تمتلك التفويض الرسمي من قبل الفصائل العسكرية المنضوية تحت لواء الحشد، وبالتالي حق لها أن تكون الممثل السياسي في البرلمان لقوى الحشد الشعبي، بيد أن الرياح لم تأتِ بما تشتهيه سفن القوم فضاعت بوصلتها أمام تيار المعارضة الشعبية المتنامي ووقع ما لم يكن بالحسبان.
وعلى الرغم من إدراج هذا التيار الشعبي المعارض عادة تحت شعار انتفاضة تشرين ويتمتع بأغلبية واسعة من الفئات الاجتماعية الرافضة للسياسات المتخبطة، غير أن هذا لا يمنع من ظهور معارضة فضلت عدم الالتحاق مع القوى الشعبية التشرينية لكنها قالت كلمتها الفصل في الانتخابات ورفضت ذلك التمثيل الشرعي لها من قبل الفصائل السياسية المذكورة. وبهذا المعنى كانت هذه الانتخابات انتفاضة ناعمة شارك بها الناخبون بمختلف توجهاتهم رغم المقاطعة الواسعة.
نحن أمام تضامن غير معلن يلتقي جذره الأساس في المطالبة بالحقوق المشروعة ويفترق من حيث الأسس الفكرية والتوجهات السياسية. لكنه في نهاية المطاف يتفق على الأسس البديهية وأولها ضرورة التطلع لحياة كريمة حتى لو كان الحد الفاصل بين الاثنين هو السياج العقائدي.
يتضح لنا من خلال قراءة المشهد السياسي الحالي أن رقعة المعارضة الشعبية آخذة بالاتساع، وثمة إجماع شعبي على ضرورة التغيير واندماج الكيانات الناشئة في العمل السياسي، لكي تكتسب شرعيتها من خلال ما تقدمه من خدمات حقيقية لممثليها، ولا تنحصر فعالياتها بالشعارات الفضفاضة.
لقد أدرك العراقيون، بمختلف توجهاتهم، أنه ما من مؤامرة أكثر قسوة من اتساع دائرة الفقر، وشيوع حالة تبديد المال العام، والمحسوبية، وثراء فئة سياسية قليلة على حساب الأغلبية الساحقة التي تكابد الألم والمعاناة الذي يتعايشه معظم العراقيين كل يوم وهم يرون ثروتهم تذهب إلى المجهول في وضح النهار.
ومن المرجح التحاق الصدريين في قافلة المغضوب عليهم في السنوات القادمة إن لم يوفوا ببرنامجهم الانتخابي. نقول ذلك وأمامنا إحصائية تقول إن عدد الناخبين الصدريين لم يتجاوز الـ 670 ألف ناخبًا ونحن نعلم أن الجمهور الصدري أكثر من ذلك بكثير، أقلها من خلال الفعاليات السياسية التي يقوم بها الصدريون بين الحين والآخر. وهذا العدد من الناخبين قابل للهبوط في السنوات المقبلة إذا تجاهلت الكتلة الصدرية مطالب ناخبيها مثلما حدث للباقين.
مع اعترافنا بخصوصية الجماعات العقائدية من حيث كونها لا تندرج في عداد المجتمعات الحديثة، وأنها لا تقيم وزنًا لأسس الديمقراطية، وأنها تنتخب عادة على أساس الولاء وليس البرنامج الانتخابي، لكن الناس، مهما طال زمن الغفلة، لا تفرط بمتطلبات العيش الكريم، وأدناها ألا يكون العراقيون تحت طائلة الفقر في بلد غني بثرواته الطبيعية، وبالخصوص جمهور التيار الصدري الذي تتسع فيه رقعة الفقراء من ذوي الأصول الجنوبية.
من الطبيعي، وبحسب الشواهد التاريخية، أن لا يتنازل الناس بسهولة عن عقائدهم الصلبة التي تشكل قوام وجودهم الجماعي، لكنهم لا يتنازلون بالضرورة عن إشباع حاجاتهم الأساسية، وأقلها ألا يكونوا أسارى في مجمعات سكنية أعادت لنا الذكريات لبيوت الصفيح التي كان يسكنها "الشروكية" في العقود الماضية.
ستكون الديمقراطية انتفاضة ناعمة يترجم فيها الناخبون غضبهم على من تجاهلهم ولنا في الانتخابات الحالية عبرة بليغة وموجعة
ما حصل في هذه الانتخابات هو رسالة بالغة الأثر وعميقة المضمون مفادها: أن القوى الشعبية قادرة على إنزال العقوبة بممثليها، ولا ينفع معها تلك التمويهات المكشوفة التي تحاول استمالة عواطف الناس باسم الدين والمذهب، و مهما طال زمن السكوت، ومهما كانت قداسة الأيديولوجية التي تجمعهم، لكنّ أيديولوجية تمعن باحتقار معتنقيها فسيأتيها، عاجلًا أم آجلًا، الرد الحاسم والبليغ، لأن الديمقراطية التي أمضى عليها القوم ستكون السوط الموجه لكل من يتجاهل مطالب الناس الحقيقية، وستكون الديمقراطية انتفاضة ناعمة يترجم فيها الناخبون غضبهم على من تجاهلهم، ولنا في الانتخابات الحالية عبرة بليغة وموجعة. نتمنى أن يفهمها البرلمانيون الجدد قبل فوات الأوان.
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات