رأي

أسطورة الشعب المستنير

24 أكتوبر 2021
العراق-1_0.jpg
نتيجة للاستبداد في العراق تضخمت الكثير من الحكايات المضادة (فيسبوك)
رعد أطياف
رعد أطياف كاتب من العراق

لست أدعي بوجود جماعات معينة تبحث عن شعب مستنير، فالعنوان لا يخلو من نبرة تهكمية ورسالة لأولئك الذين يتورطون بالتواطؤ الاجتماعي من حيث لا يشعرون، ويتآمرون على أنفسهم في كل مرة وهم يكيلون التهم الجزافية على الشعب العراقي، من قبيل "أنه شعب لا يستحق الحياة"، وأن "العراقيين لا ينفع معهم سوى الدكتاتور". وهي بلا شك عبارات تثير الاشمئزاز. فلا يوجد موقف أقسى من جلد الذات والشعور بالدونية وعدم الفهم الصحيح بالتعامل مع الذاكرة الثقافية وتحميل الشعب ما لا يحتمل. حتى أن الكثير من العراقيين يعتقدون أن الشعب العراقي يستحق صدام حسين، وهذا الأخير وحده من يمكنه التحكم بضبط إيقاع هذا الشعب المتمرّد. وهي نظرة بلا شك تفترض نظرة مسبقة وتمثلًا معينًا لطبيعة الشعب.

نتيجة لتعاقب الأنظمة الاستبدادية في العراق تضخمت الكثير من الحكايات المضادة ومنها مسخ الهوية الوطنية وفقدان الثقة بالذات

ومن غير المستبعد أن التورط في الأحكام الجزافية ناتج من النظر إلى حاضر الشعوب الأوروبية وإجراء القياسات والمقارنات اللازمة طبقًا للحالة المستقرة لهذه الشعوب ولم ينظروا إلى تاريخها المليء بالتناقضات الحادة. فيغدو الشعب العراقي، مثلًا، شعب "همجي"، و"متخلف"، ولا يعرف "ماذا يريد" مقارنة بالشعب الفرنسي الثوري التقدمي العلماني. فهل يٌعقل الثقة بشعب مثل الشعب العراقي طالما توجد شعوب متطورة للغاية مثل الشعب الألماني أو الياباني وغيرهم. فهم معيارنا ونقطتنا المرجعية للحكم على هذا الشعب أو ذاك. لكن هذه النظرة تختزل قرونًا من التنشئة الاجتماعية ولا تنظر لطبيعة الصراع والمخاض التاريخي العسير الذي مرّت به هذه الشعوب.

اقرأ/ي أيضًا: تحديات التنظيم في مجتمع تقليدي

ولو كانت هذه المقارنات تقتصر على الفئات الجاهلة لهان الأمر غير أن الكثير من الفئات المتعلمة، بحسب المشاهدات اليومية والخبرات الشخصية، تشرعن هذه الأساطير متخذة من هذا الهذيان نقطة انطلاق للتميّز الشخصي. بعبارة واضحة، أنها تشتم الشعب باعتبارها لا تنتمي إليه ولا ترتكز في طرق تفكيرها وسلوكها على معاييره المجحفة كما تدعي.

على أثر الاستعباد الطويل الذي مر به الشعب العراقي نتيجة لتعاقب الأنظمة الاستبدادية، تضخمت الكثير من الحكايات المضادة، ومنها مسخ الهوية الوطنية، وفقدان الثقة بالذات. وتغلغلت بمرور الوقت أساطير شعبية وثقافة قائمة على الدعاية والتضليل من قبل الناس أنفسهم. وبات بعض العراقيين اليوم ينظرون إلى أنفسهم بطريقة تتسم بالقسوة ورثاء الذات لا تخلو من "سادية" لدرجة أن البعض منهم شخّص علّة هذا الخراب وحصرها بغياب الديكتاتور!

وهذه الدعاية المجانية تقوم على مسلمات مفادها، أن المستبدين، على سبيل المثال، نتاج لعلاقات اجتماعية تميل إلى تمجيد الطغيان. وهذا الحال ينطبق على المجتمع العراقي بوصفه بنية قبلية ومذهبية تتمتع بقابلية قصوى على توليد المستبدين. هذا الطرح محق من وجه معين وقد كتبنا عنه الكثير، ولطالما نكتب عن البنية القبلية والمذهبية في المجتمع العراقي وقابليتها على تفريخ الطغاة. غير أن الكثير من النخب المستنيرة تظهر أيضًا من هذه المجتمعات لأنها لا تتمثل قيمها الاجتماعية المستبدة كما سنذكر بعد قليل.

غير أن تحليل المجتمع وبناه العميقة شيء وفكرة أن يكون التغيير، أولًا وبالذات، اجتماعيًا قبل كل شيء شيئًا آخر. بمعنى: حين تفكّك الظواهر وبناها العميقة فعليك الغوص في القاع، وهي الذاكرة الثقافية، بينما لو أردت التغيير فعليك بالقمة، أي الاستعانة بنخبة سياسية مستنيرة تدرك مسؤولياتها، لا أن تسقط في مغازلة الشعب عبر الانتهازية السياسية وتتصالح مع كل الظواهر الاجتماعية باعتبارها جزء أصيل من الثقافة (هذا لو كانت الثقافة معطى ثابت) وهي تفعل ذلك ليس حبًا وانتماءً لثقافتها وإنما للحصول على الإمضاء الاجتماعي لشرعنة استبدادها (وما أسهله وأسرعه في مجتمع تقليدي لا تحرك فيه النخب السياسية ساكنًا لضمان ديمومتها).

بعبارة أخرى أن نتائج التفكيك والتحليل والنقد الاجتماعي التي تزودنا بها الدراسات الرصينة نحولها إلى سياسيات تنفيذية من خلال المؤسسات الفاعلة، وهذه الأخيرة لا يمكنها أن تخطوا خطوة واحدة لولا القرار السياسي، وبهذا نستنتج أن المجتمع وحده لا يفكر ما لم يتوفر على نخبة سياسية فاعلة.

صحيح أن البنى الفوقية نتاج للبنى التحتية، إن شئنا استخدام المفاهيم الماركسية، لكن هذا لا يناقض فكرة أن التغيير يبدأ من السياسة باعتبارها أحد مكونات البنية الفوقية. بل أن التغييرات الثورية، وهذه بديهة تاريخية،  تبدأ عادة بالتغييرات السياسية ولا تنتظر تغيير المجتمع لكي تقوم بحراكها الثوري! حتى هذا التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها لأنه مرتبط بتغيير البنى الاجتماعية، وهذه الأخيرة لا تحدث دفعة واحدة على الإطلاق وسيكلف الأجيال اللاحقة عقود من العمل المضني وهذا ما يوضحه تاريخ الشعوب الأوروبية.

إن التغييرات مهما كانت  قوة جذريتها فستعمد إلى تغيير المفاهيم السائدة وتسعى لاستبدالها بمفاهيم ذات دلالات مختلفة، أما التغييرات الاجتماعية فقصتها طويلة ولا يمكن اختزالها بشتم الشعب لعدم قابليته على التغيير، ذلك أن بعض المتعالمين يتصورون التغيير كما لو أنه تناول وجبة خفيفة وثرثرة مملة في شارع المتنبي!

إن النخبة السياسية عادة ما تكون درجة تمثيلها للقيم الاجتماعية الممانعة ضعيفة، فيمكن توصيفهم بأنهم سابقون لزمنهم وربما لو لم يكونوا كذلك لما استحقوا أن يكونوا في طليعة المجتمع. وهؤلاء لا ينتظرون المجتمع متى يتغير بل يأخذوا زمام الأمور ويشرعون بمرور الزمن من بناء المؤسسات وتعليم المجتمع وتدريبه عبر تنشئة اجتماعية وسياسية طويلة الأمد لتظهر لاحقًا أجيال تقدس القانون والحرية والديمقراطية وثقافة المؤسسات.

فلا توجد ثقافة غير قابلة التغيير وأخرى قابلة للتغيير، ذلك إن القبليات تنمو بالتدريج مع حسن الإدارة والتعليم. نعم ثمة اختلالات وأعطاب تُبتلى بها كل ثقافة فيأتي دور النخبة المستنيرة لتغدو بمنزلة الطبيب الذي يجد العلاج اللازم على شكل جرع تدريجية، وهذا يتوقف على حجم وفاعلية هذه النخبة وقوة إخلاصها.

النخبة السياسية لا تنتظر المجتمع متى يتغير بل يأخذوا زمام الأمور ويشرعون بمرور الزمن من بناء المؤسسات وتعليم المجتمع وتدريبه عبر تنشئة اجتماعية وسياسية طويلة الأمد

إن التغيير السياسي سابق على التغيير الاجتماعي بزمن طويل؛ ذلك أن السياسة بمنزلة العقل، والمجتمع بمنزلة الجسد، غير أن الإيعازات في عالم السياسة لا تأتي متوازية بنفس السرعة التي نجدها بين العقل والجسد البشري، كل ما في الأمر أن السياسة هي العقل المفكر للمجتمع، والناس على دين ملوكهم وليس الملوك على دين الناس، غير أن المعادلة مقلوبة في ثقافتنا إذ يصر الطغاة وبعض المتعالمين على قلب المعادلة وهم بذلك لبسوا الفرو مقلوبًا!

اقرأ/ي أيضًا: أصدقاء الديكتاتور.. عرس انتخابي أم إيماني؟

 لأجل هذا وغيره من يريد أن يشتم الشعب العراقي، مثلًا، بحجة تميزه عن هذا الشعب، ومن يعتقد بالتغيير الاجتماعي قبل كل شيء، ومن يعتقد أن الديمقراطية منتج ثقافي وليس صناعة وتنشئة مستمرة بمرور الزمن، ومن يعتقد أننا لا نستحق الديمقراطية، ومن يعتقد أن هذا الشعب لا يتغير فهو لا يقل غباءً وأصولية عن الفئات التي يشتمها دائمًا، بل لا يؤتمن على مصالحه الفردية، ويمكنه أن ينتظر اللحظة التي يصل فيها الشعب إلى مرتبة "الاستحقاق" لدورة وجودية أخرى!

 إن الشعوب بطبيعتها خليط من الأمزجة والقابليات والسلوكيات المختلفة وقد يكون الأعم الأغلب من الشعب رافض للتغيير على الإطلاق، أما من يريدون أن يغذوا عقدهم الدونية بحجة تميّزهم عن المجتمع فهم آخر من سوف يتغير.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدين والسياسية: أزمة مفتوحة

عن الديكتاتور الصغير

الكلمات المفتاحية

الحروب.jpg

2025.. عام الحرب والسلام

الحروب هي في الأساس توترات مؤجلة انفجرت وتصاعدت بسرعة


الدراما في العراق.jpg

المسلسلات في "عام الإنجازات"!

هناك أسئلة عديدة حول المنحة الحكومية للدراما في العراق خلال 2024


احتفالات في غزة.jpg

نعم.. انتصرت غزة

الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة


مسعود بارزاني السوداني.jpeg

خلافات بغداد وأربيل.. تنافس يوضح المشهد السياسي لانتخابات 2025

لا يمكن أن تأتي إعادة تشكيل القوة في العراق إلا نتيجة لحدث عراقي أو إقليمي كبير من شأنه أن يعيد ضبط اللعبة

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert