أثمان لحظة التأسيس
19 مارس 2020
عام 2003 ونحن نسمع كلمة "مرحلة انتقالية"، كنا نشعر أن حلم الخلاص النهائي في طريقه للتحقق، كنا نقترب من العالم بنسخته الحديثة. هي انتقال من مرحلة البطش والتنكيل إلى الأمل والأمن، انتقال من دولة الحاكم الفرد المعصوم إلى دولة المواطن المحترم والمصانة حقوقه، وهي عبور نحو الحياة بعد أن حبسنا في سجون الديكتاتور سنوات طويلة. لا بدّ من تصفية أخطاء النظام البعثي، وبناء دولة المواطنة لا دولة الحزب الواحد، ولا بدّ من تحمل ما يمكن أن يقع من أخطاء، وما يتبع من أساليب ونحن ننتقل من نظام حكم إلى آخر نقيضه تمامًا، لكن أخطاء لحظة التأسيس لم يجري تجاوزها، ولم تصحّح؛ أخطاء الدستور، المحاصصة، ضياع أو تشتت فكرة المواطنة، ضعف سيادة القانون.. الخ.
هل يمكن الخروج من المرحلة الانتقالية إذا كانت مبنية على دستور يعزز فقدان الثقة؟ وعلى سلطة تأسست وفق مبدأ المكونات لا المواطنة؟
دعونا نعود للتأسيس.. كانت لحظة "فقدان ثقة" هائلة ومخاوف كبيرة، تعكس بدرجة وأخرى مخاوف فئات المجتمع الطائفية والعرقية، لحظة التأسيس تلك قادها، علمانيون وإسلاميون، عرب وكرد، شيوخ وشباب، نساء ورجال، الكل كان مدفوعًا بالريبة والشك من نوايا رفيقه الذي يجلس جواره، لذلك جعل كل منهم نفسه ممثلًا لفئة من المجتمع، كان الشيعة والكرد الأكثر شعورًا بالظلم بسبب التعسف الكبير الذي لقوه من نظام صدام حسين، تقاسموا السلطة بناء على فكرة "المكوّنات"، كأنهم يقولون لبعضهم البعض، لا اعطيك السلطة كاملة، وأنا أخاف على "مكوني" من نواياك وطرقك وأهدافك، هذا تصرف إنساني طبيعي. من يفقد ثقته بأحد يجعله نصب عينيه، كتبوا دستورهم بعد تقاسم السلطة، فخرج وكأنه كتاب يؤكد فقدان الثقة بين المكوّنات ويعززها. ذُكرت كلمة "المكوّنات"، سبع مرات في الدستور: مرتين في الديباجة، وخمس مرات في مواد أخرى منها المادة (12) الخاصّة بعلَم الدولة وشعارها ونشيدها الوطني، فضلًا عن المواد: (9/ أولًا)، و(12/ أولًا)، و(49/ أولًا)، و(125) و(142/ أولًا).
اقرأ/ي أيضًا: 16 عامًا على "سقوط بغداد".. الخراب أيقونة للماضي والمستقبل
ترك فقدان الثقة بصماته المدمرة على أساس الدولة "الدستور"، فهل يمكن الخروج من المرحلة الانتقالية إذا كانت مبنية على دستور يعزز فقدان الثقة؟ وعلى سلطة تأسست وفق مبدأ المكونات لا المواطنة؟ لم يسأل أي أحد منا نفسه، ماذا لو فسد ممثلي المكونات كلهم، وتقاسموا المغانم مدفوعين بنوايا شخصية فاسدة لا بحماية المواطن؟
ما يجري في العراق اليوم، هو جني "ثمار" الزرع الأول، بعد أن تحولت فوضى التأسيس إلى مسار نهائي للسلطة، تحول الانتقالي إلى أساسي، العرضي إلى جوهري، وأصبحت فوضى القرار الجماعي وتقاسم السلطة إلى قانون يحكم السلطة وتدار به الدولة، ولا زلنا نعيش نتائج ذلك المسار بشكل يومي.
بارتكازها على مفهوم المكونات، أجهزت القوى السياسية على العراق كفكرة، فلم يعد وطنًا يجمع ويحمي مواطنيه، بل أرض تعيش فيها مكونات خائفة من بعضها البعض، كان في ذهن كل من في السلطة فكرة عن معنى الوطنية تختلف عن فكرة الآخر. هذه الفكرة "الوهمية" و"المتصورة" هي الجوهر الذي تبنى عليها الأوطان، من هو العراقي؟ وما هي هويته السياسية؟ هل تجمع هذه المكونات الخائفة فكرة وطنية؟ ففكرة السياسي الكردي المدفوع بتاريخ من الاضطهاد السياسي، عن العراق العربي، تدفعه نحو تصور شكل العراق بالفيدرالي، لكي لا تعود القومية العربية لتكون نظرية حكم أو لها دور في صنع القرار، في حين تقبّل العرب السنة والشيعة الفيدرالية على مضض، وتحت ضغط اللحظة بكل تفاصيلها "احتلال، تدخلات، فلتان أمني وسياسي"، ولأنهم يعرفون أن العراق الفيدرالي في تصور الأكراد هو التسمية القانونية والدستورية لعراق ضعيف السلطة، وفكرة السياسي الشيعي المدعوم من إيران عن العراق هي في امتداده المذهبي وليس القومي، عراق قريب من إيران، باعتبار أن شيعة العراق هم الأقرب لها روحيًا، الكردي والشيعي تصوروا فكرة العراق وهم مدفوعون بمخاوف التاريخ.
أما السني الذي مسك بالسلطة زمنًا طويلًا فقد وجد نفسه في لحظة فقدانها وكأنه في صراع بين العراق كرمز للعروبة وقوة لها، وبين عراق "غير عروبي" وبعيد عن تأثيرات المحيط العربي. خلاصة القول؛ إن الكل كان مدفوعًا بالمخاوف، وفي النهاية تلاشت فكرة الوطنية العراقية وحلت بدلها تصورات "المكونات الخائفة" عن العراق. هذا من جانب هوية العراق وفكرته في أذهان المؤسسين، أما من الناحية السياسية، فبالرغم من صعوبته البالغة، إلا أن إعادة الوضع الطبيعي للدولة وتصحيح انحرافات التأسيس كان ممكنًا لو انتجت العملية السياسية معارضة برلمانية فاعلة، لأنه لا يمكن إبعاد النظام الديمقراطي عن الانحراف دون معارضة، لكن "نظرية المكونات" أجهزت على أي فرصة لخلق معارضة وطنية، كيف تكون هناك معارضة وطنية والسلطة بكل مفاصلها مبنية ومقسمة على أساس "المكونات"؟
بنيت المحاصصة على فكرة القرار الجماعي ولكنها انتهت إلى مرحلة "اللاقرار"، وما دامت القوى السياسية متفاوتة القوة والنفوذ، فقد انتهى القرار السياسي بيد الأكثر قوة بينهم، وهو من يحمل السلاح ويشهر به.
تحولت المحاصصة إلى مبدأ أكثر قوة من الدستور والقوانين وهذا الخطأ يستحيل تصحيحه دون وصول قوى سياسية تؤمن بفكرة الوطنية العراقية
افقدتنا لحظة التأسيس فرصة ولادة معارضة وطنية وهذا ما أفسد السلطة، وجعلها في مأمن عن الحساب والرقابة، فما الذي فعله الشعب لمواجهة طوفان الفساد والانحراف الذي أثقل كاهله وأحال حياته إلى رماد غير أن يلعب دور المعارضة. إن كل التجارب السياسية تؤكد أنه ليس هناك شعب يفقد أذرع تمثيله والدفاع عنه ولا يلجأ إلى الشارع دفاعًا عن حياته ووجوده ومستقبله.
اقرأ/ي أيضًا: الحلم العراقي.. من الاستبداد إلى المحاصصة!
كانت القوى السياسية في لحظة التأسيس تخدع نفسها كثيرًا حين تقول إن المحاصصة فكرة طارئة، ولا يمكن الاستمرار فيها، ولا بد أن يصل الجميع إلى قناعة راسخة بعبورها، لكن الذي حصل أنها تحولت إلى مبدأ أكثر قوة ونفاذًا من الدستور والقوانين، وهذا الخطأ يستحيل تصحيحه دون وصول قوى سياسية تؤمن بفكرة الوطنية العراقية، دولة المواطنة لا المكونات. وتجيب عن السؤال: هل نحن دولة مكونات أم دولة مواطنة؟
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية
أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي
نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات