رأي

دفاعاً عن "ألمان" بغداد

28 September 2015
GettyImages-481421974.jpg
أطفال في حي صفيح في النجف (Getty)
عمر الجفّال
عمر الجفّالشاعر وصحفي من العراق

كنتُ "ألماني" في تسعينيات بغداد القرن المنصرم قبل أن يولد المصطلح. وأتساءل اليوم، مع الموجة التي تُلاحق هؤلاء "الألمان"، من منا عاش في ذلك الزمن العراقي المأزوم ولم يكن "ألمانيًا"، كيف نجى من أن يكون كذلك، وما هي الظروف التي أمنّت له الخلاص من العيش المزري ذاك؟

يتحدّر "الألمان" من مناطق وأحياء بغداد الفقيرة

و"الألمان" شباب عراقيون يتميزون بسحنات متعبة، وشعور طويلة ومنكوشة، بسراويل وقمصان وستر غريبة، يتجمّعون أيام الأعياد والعطل في الشوارع والساحات العامّة، ينقرون الدفوف، ويتركون أجسادهم تتهاوى على أنغام الموسيقى الشعبيّة التي غالبًا ما تُرافقها كلمات موزونة فيها الكثير من البذاءة والعُري. وتسمية "الألمان" ليس لمديح هؤلاء، وإنما لتعييرهم وتحقيرهم وتذكيرهم بأنهم من أبناء القاع؛ ويثير هؤلاء حفيظة العائلات لأنها تشعر بالضيق منهم بسبب إغلاقهم الشوارع، ولأنهم ينافسونها على ما تبقّى لها من ساحات عامّة، فضلًا عن قيام البعض منهم بمضايقة النساء والتحرش بهن.

في تسعينيات عراق "القائد الضرورة"، كان غالبيّة الشعب العراقي تحت خطّ الفقر، وكان الهزال بيّن بشكل واضح على الأطفال والمراهقين. سوء التغذية أحد أكثر الملامح المشتركة لجيلنا، والفقر أحّد أكثر القواسم بين العائلات. آنذاك، نهاية التسعينيات، كانت جدّتي قبيل يومين من العيد تُحاول أن تعوّض غياب والدي الخارج من العراق تواً بسبب ملاحقته من قبل أجهزة النظام، فذهبت إلى خزانتها وأخرجت سراويل عمّي المفقود في الحرب العراقيّة- الإيرانية وقامت بتضييقها حتّى تلائم مقاسي، وبالطبع لم أكن وحدي في هذا، ففي اليوم التالي، كان أغلب أصدقائي الذين أجّروا الدفوف وتحضروا للذهاب إلى متنزه الزوراء، قد استعانوا بملابس آبائهم أو إخوتهم أو أقاربهم.

كنا "ألمان" أشكالنا غاية في الغرابة. لا مال لدينا يكفي لندخل المطاعم أو مُدن الألعاب، وليس هناك مساحات لنا مثل النوادي أو الساحات العامّة أو الحدائق لتلّملم غرابتنا. فقط متنزه الزوراء، المسموح الدخول إليه بالمجان، يشبع توقنا للهو والرقص والغناء، فقط الشوارع تكفي لطاقتنا العجيبة على السير.

اليوم، مع ولادة مصطلح "الألمان"، لا يبدو الواقع مغاير كثيرًا، صحيح أن "الألمان" بات لديهم القدرة على شراء ملابس جديدة تساير "الموضة"، لكن الصحيح أيضًا أن هؤلاء بسبب فقر أحوالهم لا يستطيعون شراء السلع الأصلية، ولا حتّى المقلّدة بشكل جيّد، فتعود ملابسهم ذات الصناعة الرديئة بالسخرية عليهم، فضلًا عن أنهم يحاولون وضع لمستهم "المحليّة" على الملابس فتزيد نبرة السخرية تجاههم.

من الغريب أن يسخر شبّان التظاهرات من "الألمان"، فيما يحاولون مساعدتهم في الانتقال إلى واقع أفضل

وفي الأعم الغالب، يتحدّر "الألمان" من مناطق وأحياء بغداد الفقيرة، الغارقة في الأمية وسوء الخدمات، ومُدن هؤلاء ليس لها وجود على الخرائط، إنها مُدن وجدت لها أسماء على عُجالة، كحي التنك أو حي الشيشان، وتم البناء العشوائي فيها كملاذ لعدم وجود سكن لإيوائهم، الأمر الذي يزيد من مساحات الفوارق الطبقية بينهم وبين أقرانهم من سكنة الأحياء الراقية.

بالمقابل، ما تزال حيّاة المدينة ضيّقة أمام الشبان "الألمان". الأبواب مغلقة بوجوههم. الساحات العامة والحدائق في هذي البلاد قليلة وشحيحة، والمرافق الترفيهية تكاد تنعدم، وهو ما يصعّب على العائلات منافستهم على احتلال الساحات، إنهم يستطيعون السيطرة عليها بصراخهم ورقصهم وتحرشهم، فيما تنسحب العائلات مخذولة أمامهم، وبالمقابل يخسر هؤلاء جولة الدخول إلى المطاعم المتوسّطة الأسعار، إذ أنها تمنع دخولهم خشية من قيامهم بالتحرّش، أما المطاعم والنوادي الغالية والحانات فهي إن استقبلتهم، فإنهم لن يستطيعوا دفع فواتيرها الباهظة.

الأكثر غرابة في كلّ هذا، أن يسخر شبّان متحمسون في التظاهرات التي تعمّ مدن العراق من "الألمان"، فيما هم، بطبيعة الحال، يحاولون مساعدة "الألمان" في نقلهم إلى واقع معيشي أفضل حالاً، يحاولون إخراجهم من "ألمانيتهم" التي وضعتهم فيها السلطات بسبب تفقيرها وتحقيرها المستمر لعامّة العراقيين، ولاسيما الفقراء منهم.

في الأخير، يجب التنويه إلى أن "الألمان" قادمون بقوّة في الفترة القادمة، خاصّة مع تصاعد الخطوط البيانية للفقر، وهبوط أسعار النفط، والإشاعات المستمرة عن انهيار الدينار العراقي.
الكل سيصبحون "ألمان" وإن لم ينتموا.

الكلمات المفتاحية

الحروب.jpg

2025.. عام الحرب والسلام

الحروب هي في الأساس توترات مؤجلة انفجرت وتصاعدت بسرعة


الدراما في العراق.jpg

المسلسلات في "عام الإنجازات"!

هناك أسئلة عديدة حول المنحة الحكومية للدراما في العراق خلال 2024


احتفالات في غزة.jpg

نعم.. انتصرت غزة

الكيان الإسرائيلي في نكبة ليست أقل من نكبة غزة


مسعود بارزاني السوداني.jpeg

خلافات بغداد وأربيل.. تنافس يوضح المشهد السياسي لانتخابات 2025

لا يمكن أن تأتي إعادة تشكيل القوة في العراق إلا نتيجة لحدث عراقي أو إقليمي كبير من شأنه أن يعيد ضبط اللعبة

11 ابتزاز.jpg
أخبار

القضية وصلت إلى السفارة والمخابرات.. اعتقال عراقي ابتز امرأة أجنبية

أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال متهم بمحاولة ابتزاز امرأة أجنبية، إثر تلقي شكوى من خلال إحدى السفارات العراقية

البنك المركزي الجديد طقس بغداد غيوم.jpg
اقتصاد

البنك المركزي ينشر 3 نقاط من نتائج اجتماعه مع الجانب الأميركي حول القطاع المصرفي

نفى تعرض مصارف عراقية لعقوبات


مجلس الوزراء.jpg
اقتصاد

خبير اقتصادي يطالب البنك المركزي بالكشف عن زيادة الدين الداخلي سنويًا

ارتفاع الدين الداخلي للعراق بنسبة 2.9% ليصل إلى 81 ترليون دينار

عبد اللطيف رشيد.jpg
أخبار

رئيس الجمهورية يواجه سؤالًا برلمانيًا: لماذا رفعت راتبك؟

"الإجابة خلال 15 يومًا"

advert